والناس يضحكون منه، ويغضون عنه. ويقولون: هذا يضيع ماله فيما لا يعنيه، وما هذا الهوس الذي وقع فيه. وهو يعد لذلك العمل الآلات، ويجد في تلك

الأدوات، ويكثر القدور، ويرتب الأمور.

فلما قدمت إلى البلد تلك الأبراج؛ وحصل من الامتزاج الامتراج؛ قوتلت بكل فن، وأدنى إليها من النفط كل قدرون. ورميت بكل قارورة محرقة، وكل نفاطة مرهقة. وبالغ في صنعته الزراق، فلم يتم في شيء منها احتراق. ووقع الياس، واستسلم الناس. فمضى ابن العريف، بل ابن العريف، إلى بهاء الدين قراقوش - الأمير. وقال: قد رأينا ما اعترض من التدبير، وما عرض من التقدير. فأفسح لي في رمى هذه القدور؛ فلعل الله يأتي منها بشفاء الصدور. فأذن له على كره، وقال: ما أرى لإحراق هذه البروج على يده من وجه، فإن الصناع قد أبلسوا، والزراقين العارفين بالصناعة يئسوا.

فلما وجد الإذن، وزن القدور وعيرها، ورمى بواحدة منها إلى أحد الأبراج في المنجنيق وعبرها واعتبرها. ثم لما استوت رمايته، وصحت في الإصابة درايته. رمى بقدور نفط لا نار فيها، وهو يصبها على أعالي البرج ويسقيها. والفرنج يعجبون من البلل، ولا يدرون بما وراءه من الشعل. ثم قذف ناريه، متشعبة بكل بلية، فوقعت في الطبقة الوسطى، ورمى أخرى فوقعت في السفلى، فاشتعل البرج من طرفيه الأدنى والأعلى. وتعذر على من فيه الفرنج الخلاص وكانوا سبعين، فاحترقوا أجمعين. ودخل إليه جماعة لاستفاذ ما فيه فاحترقوا بدروعهم وسيوفهم، وتقلبت الجحيم غيظا لاستبطاء حتوفهم.

وتحول ابن العريف إلى مقابلة البرج الثاني، ولم يلحقه في إحراقه التواني. وانتقل إلى الثلث فاحرقه، وما كان ذلك بصنعة منه بل لأن الله وفقه، وما زالت تحترق الثلاثة وتتقد اتقادا، حتى عاد جمرها رمادا، وبياض نارها واحمرارها في السماء على الأرض سوادا. واحترقت المجانيق والستائر التي كانت بقربها.

(فبهت الذي كفر) وأسف على نصبه في نصبها. وخمد الكفار بذلك الضرام،

وسلوا عما كانوا فيه غرام العرام. وحبطت أعمالهم، وخابت آمالهم. وركدوا بعد جريهم، وركنوا إلى خزيهم. وضلوا في سعيهم، وتورطوا في بغيهم، وسقط في أيديهم بسقوط ايدهم، وحيق مكرهم بهم، وكيدوا بكيدهم.

وخرج رجالنا من البلد فنظفوا الخندق وسدوا الثغر، واظهروا بظهور القدر القدر. وجاءوا إلى مواضع الأبراج وأماكنها، واستخرجوا الحديد من مكانها. ونبشوا الرماد عن الزرديات التي انسبكت، وكشفوا عن الستائر التي تهتكت.

فأخذوا ما وجدوا، وحصلوا على ما نشدوا. وأترب من ترب من تراث ذلك التراب، وعمرت قلوب المسلمين بذلك الخراب. وبردت من حر تلك النار، وشفى أوامها بذلك الأوار.

والحمد لله الذي جعل تلك النار لأوليائه بالبرد والسلام ابراهيمية، وعلى اعدائه بالحر والضرام جحيمية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015