والعشرين؛ عوام من البلد يخبر بقوة المشركين المحاصرين. وأن البلد قد ضويق، وأن العدو المخذول يحيق به كيده أن حوقق. فتقدم السلطان ليشغل العدو عن قتال البلد بقتاله، ويكفه بنزاله عن نزاله. وجدد الكتب إلى الأمصار، بالاستنفار والاستنصار.
أول من وصل؛ ولده الملك الظاهر صاحب حلب، وقد جمع وجلب. وتقدم عسكره يوم الجمعة وانفرد بوصوله، وحظي من نظر والده بسوله. وذلك يوم الجمعة السابع والعشرين. ثم عاد إلى معسكره، وجاء يوم السبت في حسن منظره، وإحسان أثره. في منظر ناضر، ورونق حاضر، وجمع كثيف، وحشد لفيف. وبهجة رائعة، وروعة مبهجة وهيئة معجزة، وهيبة للعدو مزعجة. وصولة دائلة، ودولة صائلة، وميامن رائقة، ومحاسن شائقة. وبحر من الحديد مائج، ومجر من العديد هائج. ورقاق وذوابل، وعتاق وصواهل، وعوابس وعواسل، وشعوب وقبائل.
وقدم في هذا اليوم (مظفر الدين بن علي كوجك) وهو صاحب حران جريدة، وقد استأنف للجهاد عزيمة جديدة. ثم عاد إلى عسكره ليقدم به، ويحضر بجنده وتركمانه وعربه.
ولما كان بعد الظهر من هذا اليوم؛ وهو السبت الثامن والعشرون، تتابعت بظهور دلائل النصر؛ وتناصر أسباب الظهور المبشرون. فنظرنا والنار من أحد الأبراج في السماء بشعلها متسامية، وفي الجو بشرارها مترامية. وما يدري ما سبب هذا التوفيق.
وأحدقت النار بالبرج فإذا هو كشجرة من نار، وقلوب المشركين لاستعارها في استعار، ووجوه المؤمنين لأنوارها في استبشار. ثم رأينا البرج الثاني وهو يحترق، والنار في أثنائه تخترق. ثم نظرها إلى البرج الثالث فإذا هو يشتعل، وبألسنة النيران يبتهل. فما برحنا حتى سقطت ثلاثتها. وبلغت إلينا من صدماتها وحدماتها استغاثتها.
وركب السلطان ونحن معه ونزلنا نكتب بشائر النار، ونسير بطاقاتها على أجنحة الأطيار. والعجب أن الأبراج كانت متباعدة غير متدانية، وقد أبعدها الفرنج لمسافات متنائية. فكل واحد منها على جانب من البلد قد كشفه، وخسف أسواره وكسفه. فاحترقت على تباينها في وقت واحد وقدر من الله وارد. فلم يكن ذلك إلا سرا إلهيا، ولطفا ربانيا. وفرجا بعد الشدة، وثلجا لصدور المؤمنين بتلك الوقدة.
وكان سبب حريقها أن رجلا يعرف بعلي - ابن عريف النحاسين بدمشق - كان استأذن السلطان في دخول عكاء للجهاد، وأقام فيها باذلا للاجتهاد. وغرى بعمل قدور النفط وتركيب عقاقيره، وتعيين كل نوع وتعيير مقاديره، وتقديره معاييره.