وتعامت عن المرامي الصواب.
وقالوا لو بقي منا واحد لحفظ بيت الاسبتار، وخلصه إلى الأبد من العار، ولا بد من عود الفرنج إلى هذه الديار، فنتجلد للاصطبار، ونتشدد للانتظار فقاتلوا أشد قتال، ونازلوا أحد نزال. وفوقوا الجروخ المصمية، وصوبوا الصخور المردية، ورفعوا المنجنيقات الموجبة. وتواترت زيارات الزيارات الموترة، وتناويت نوائب الزنبوركات المطبرة.
واجترأوا على الاجتراح، وجرى سبل الجراخ ودمنا في الدم، ورد الوجود إلى العدم. وتجرئة الرجال، والتجريد للقتال، وايتار الحنايا، وايثار المنايا. والرمي في المنجنيق، والجمع والتفريق، والرقع والتخريق، والنقب والتعليق، والحفر والنعميق، والحصر والتضييق. والهد والهدم، والرد والردم، والصد والصدم.
وكان الوقت صعبا، والغيث سكبا، وتكتثرت السيول، وتكاثفت الوحول، ودامت الديم لدموعها مريقة، وبقيت الخيم في الطين غريقة. فلا لمركب مبرك ولا مربط، ولا لسالك مسلك ولا مسقط. وكنا في شغل شاغل من تقلع الأوتاد وتوتد الأقدام، ووهى الأطناب ووقوع الخيام. وكأن الخيم مناخل الانداء، وعدمت الأنوار لوجود الأنواء، وفقد ماء الشرب مع سيل الماء. والروايا ما نهضت، ولا نزعت ولا غمضت. والرواحل في الطين باركة، وللعلف تاركة. والمطية مطينة، وسبل
السيل مستبينة. وقد كشر البرد بالبرد، عن أسنان عضاضة بالدرد. والطرق زلقة ازقة، وهي مع سعتها ضيقة. وللثق ثقل، وللعلق عقل.
وما ثم إلا ما نيط بالطين. وصعب علينا بصعوبة هذا الأمر أمر أولئك الشياطين، فنقل السلطان خيمته إلى قرب المكان، لتقريب وجوه الإمكان. وبنى له من الحجارة، ما صار له كالستارة. فحضرت بين يديه والسهام تعبرنا ولا تذعرنا، والستائر تسترنا عنهم وعليهم تظهرنا. والنقاب قد قلع وعلق، والجرحى قد هتك الحجب وخرق. وتجرد الجند، وأنجد الجد. ونزلت الأثقال والخيم إلى أسفل التل، فخف الثقل بنقل الثقل، وطاب المقام بالغور وسهل بالسهل. وتحولت الشدة إلى اللين، وتحللت إلى الطيب عقد الطين.
وما زال السلطان ملازما للحصن؛ وهناك ظاهرة له منه أسباب الوهن؛ حتى علق بعض جدرانه وطرق الهدم إلى بنيانه، فتسلمه بتمانة، وأذهب سكون سكانه. فأخرجهم راغمين، وأحرجهم غارمين. وتركوا الحصن بكل ما فيه، وأصبحوا بعد مقاتلته للعفو والمعافاة معتفية. وذلك في منتصف ذي القعدة، وانتصفت الأيام بحل تلك العقدة، ورجعت الليالي بالسكون إلى طيب الرقدة.
وعرضت القلعة على جماعة فلم يقبلوها، وخلوها وأبوا أن يلوها، وتخلوا عنها بهمم واهية، فوليها قايماز النجمي على كراهية، بعزيمة عن مهامها لاهية.
وانتقل السلطان إلى المخيم بالفضاء، وحمد الله على قضاء التوفيق وموافقة