الْمُسْلِمِينَ إذَا اجْتَمَعُوا عَلَى إمَامٍ وَصَارُوا آمِنِينَ بِهِ فَخَرَجَ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُمْ عَلَيْهِ بِظُلْمٍ ظَلَمَهُمْ فَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ الظُّلْمَ وَيُنْصِفَهُمْ وَلَا يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يُعِينُوا الْإِمَامَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى الظُّلْمِ وَلَا أَنْ يُعِينُوا تِلْكَ الطَّائِفَةَ عَلَى الْإِمَامِ أَيْضًا لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لَهُمْ عَلَى خُرُوجِهِمْ عَلَى الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خُرُوجُهُمْ عَلَيْهِ بِظُلْمٍ ظَلَمَهُمْ وَلَكِنْ ادَّعَوْا الْحَقَّ وَالْوِلَايَةَ فَقَالُوا الْحَقُّ مَعَنَا فَهُمْ أَهْلُ الْبَغْيِ فَعَلَى كُلِّ مَنْ يَقْوَى عَلَى الْقِتَالِ أَنْ يَنْصُرَ إمَامَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ لِأَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْفِتْنَةُ نَائِمَةٌ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَيْقَظَهَا» فَإِنْ كَانُوا تَكَلَّمُوا بِالْخُرُوجِ لَكِنْ لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى الْخُرُوجِ فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُمْ وَفِي زَمَانِنَا الْحُكْمُ لِلْغَلَبَةِ وَلَا يُدْرَى الْعَادِلَةُ وَالْبَاغِيَةُ لِأَنَّ كُلَّهُمْ يَطْلُبُونَ الدُّنْيَا كَذَا فِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ.
نَصْبُ الْقَاضِي فَرْضٌ كَذَا فِي الْبَدَائِعِ وَهُوَ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَأَقْوَى وَأَوْجَبُ عَلَيْهِمْ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ وَأَقْدَرَ وَأَوْجَهَ وَأَهْيَبَ وَأَصْبَرَ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ النَّاسِ كَانَ أَوْلَى.
وَيَنْبَغِي لِلْمُوَلِّي أَنْ يَتَمَحَّضَ فِي ذَلِكَ وَيُوَلِّيَ مَنْ هُوَ أَوْلَى لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا، وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ» كَذَا فِي التَّبْيِينِ.
قَالُوا: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَلِّدَ الْقَضَاءَ مَنْ لَهُ ثَرْوَةٌ وَغُنْيَةٌ لِكَيْ لَا يَطْمَعَ فِي، أَمْوَالِ النَّاسِ كَذَا فِي مُحِيطِ السَّرَخْسِيِّ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ صَاحِبُ كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ بَعْدَمَا بَيَّنَ أَهْلَ الْقَضَاءِ -: وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ إلَّا مَنْ كَانَ هَكَذَا.
وَيُرِيدُ أَنَّ الْمُفْتِيَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَدْلًا عَالِمًا بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ إلَّا أَنْ يُفْتِيَ بِشَيْءٍ قَدْ سَمِعَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَدِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ حَاكٍ بِمَا سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّاوِي فِي بَابِ الْحَدِيثِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّاوِي مِنْ الْعَقْلِ، وَالضَّبْطِ، وَالْعَدَالَةِ، وَالْفَهْمِ كَذَا فِي الْمُحِيطِ.
قَدْ اسْتَقَرَّ رَأْيُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ فَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ مِمَّنْ يَحْفَظُ أَقْوَالَ الْمُجْتَهِدِ فَلَيْسَ بِمُفْتٍ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إذَا سُئِلَ أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَ الْمُجْتَهِدِ كَأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى جِهَةِ الْحِكَايَةِ، فَعُرِفَ أَنَّ مَا يَكُونُ فِي زَمَانِنَا مِنْ فَتْوَى الْمَوْجُودِينَ لَيْسَ بِفَتْوًى بَلْ هُوَ نَقْلُ كَلَامِ الْمُفْتِي لِيَأْخُذَ بِهِ الْمُسْتَفْتِي.
وَطَرِيقُ نَقْلِهِ لِذَلِكَ عَنْ الْمُجْتَهِدِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ سَنَدٌ فِيهِ، أَوْ يَأْخُذَ مِنْ كِتَابٍ مَعْرُوفٍ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي، نَحْوُ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَنَحْوِهَا مِنْ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ لِلْمُجْتَهِدِينَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، أَوْ الْمَشْهُورِ هَكَذَا ذَكَرَ الرَّازِيّ فَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَدَ بَعْضَ نُسَخِ النَّوَادِرِ فِي زَمَانِنَا لَا يَحِلُّ عَزْوُ مَا فِيهَا إلَى مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَا إلَى أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نَعَمْ إذَا وَجَدَ النَّقْلَ عَنْ النَّوَادِرِ مَثَلًا فِي كِتَابٍ مَشْهُورٍ مَعْرُوفٍ كَالْهِدَايَةِ، وَالْمَبْسُوطِ كَانَ ذَلِكَ تَعْوِيلًا عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ كَذَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ.
أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ ذَكَرَ فِي الْمُلْتَقَطِ: وَإِذَا كَانَ صَوَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ خَطَئِهِ حَلَّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ