بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَهِيَ لَا تَقْصِدُ إضْرَارَهُ وَإِنَّمَا تَقْصِدُ نَفْعَ نَفْسِهَا بِالْخَلَاصِ مِنْهُ، فَيُقَالُ الشَّارِعُ لَمْ يَجْعَلْ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ بِيَدِهَا، وَلَوْ كَانَ انْتِفَاعُهَا بِالْأَخَصِّ حَقًّا لَهَا لَمَلَّكَهَا الشَّارِعُ ذَلِكَ وَحَيْثُ احْتَاجَتْ إلَيْهِ أَمَرَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْهُ كَافْتِدَاءِ الْعَبْدِ وَالْأَسِيرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْصِدَ مُضَارَّةً سَيِّدِهِ لِيَعْتِقَهُ، إذَا لَمْ يَكُنْ السَّيِّدُ مُتَسَبِّبًا إلَيْهِ، ثُمَّ، إنْ كَانَتْ نَوَتْ هَذَا حِينَ الْعَقْدِ فَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى مَا تُضَارُّهُ بِهِ مَعَ غِنَاهَا عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَوَصَّلَ إلَى بَعْضِ أَغْرَاضِهَا الَّتِي لَا تَجِبُ لَهَا بِمَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى غَيْرِهَا، فَكَيْفَ إذَا قَصَدَتْ أَنْ تَحِلَّ لِنَفْسِهَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِأَضْرَارِ الْغَيْرِ، فَهَذَا الضَّرْبُ قَرِيبٌ مِمَّا ذُكِرَ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ.
الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ:
أَنْ تَتَسَبَّبَ إلَى فُرْقَتِهِ بِمَعْصِيَةٍ مِثْلَ أَنْ تَنْشُزَ عَلَيْهِ أَوْ تُسِيءَ الْعَشَرَةَ بِإِظْهَارِ الْكَرَاهَةِ فِي بَذْلِ حُقُوقِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَضَمَّنُ تَرْكَ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلَ مُحَرَّمٍ، مِثْلَ طُولِ اللِّسَانِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ هَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ النُّشُوزِ وَعَلَى وُجُوبِ حُقُوقِ الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا؛ وَهَذَا حَرَامٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمٌ؛ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تَقْصِدُ بِهِ أَنْ تُزِيلَ مِلْكَهُ عَنْهَا بِفِعْلٍ هُوَ فِيهِ مُكْرَهٌ إذَا طَلَّقَ أَوْ خَلَعَ مُفَادِيًا مِنْ شَرِّهَا؛ وَالِاحْتِيَالُ عَلَى إبْطَالِ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي إبْطَالِ مَا انْعَقَدَ سَبَبُهُ وَلَمْ يَجِبْ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ؛ وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِاحْتِيَالُ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ مُسْلِمٍ بِحَالٍ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ مَقْصُودَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ لَا مُجَرَّدُ التَّخَلُّصِ مِنْهُ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا أَنْ تُظْهِرَ مَعْصِيَةً تُنَفِّرُهُ عَنْهَا لِيُطَلِّقَهَا، مِثْلَ أَنْ تُرِيَهُ أَنَّهَا تَتَبَرَّجُ لِلرِّجَالِ الْأَجَانِبِ؛ وَيَكُونُوا فِي الْبَاطِنِ ذَوِي مَحَارِمِهَا فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا؛ فَإِنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَرَامٌ فِي نَفْسِهِ؛ إذْ لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُرِيَ زَوْجَهَا أَنَّهَا فَاجِرَةٌ؛ كَمَا لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَفْجُرَ؛ فَإِنَّ هَذَا أَشَدُّ إيذَاءً لَهُ مِنْ نُشُوزِهَا عَنْهُ؛ فَهَذَا أَشَدُّ تَحْرِيمًا وَأَظْهَرُ إبْطَالًا لِلْعَقْدِ الثَّانِي مِنْ خِطْبَةِ الرَّجُلِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ.
وَهَذَا نَظِيرُ أَنْ يُخَبِّبَ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ لِيَتَزَوَّجَهَا فَإِنَّ السَّعْيَ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ بَلْ هُوَ فِعْلُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَفِعْلُ الشَّيْطَانِ الْمَحْظِيِّ عِنْدَ إبْلِيسَ؛ كَمَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ.
وَلَا رَيْب أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ تَزَوَّجَهَا؛ ثُمَّ بُطْلَانُ عَقْدِ الثَّانِي هُنَا أَقْوَى مِنْ بُطْلَانِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَأَقْوَى مِنْ بُطْلَانِ بَيْعِهِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَشِرَائِهِ عَلَى شِرَائِهِ.