فَإِنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ هُنَا حَصَلَ بِفِعْلِ مُبَاحٍ فِي الْأَوَّلِ لَوْ تَجَرَّدَ عَنْ قَصْدِ مُزَاحِمَةِ الْمُسْلِمِ، وَهُنَا فِيهِ قَصْدُ الْمُزَاحِمَةِ، وَإِنَّ الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمٌ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ صَحَّحَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْعَقْدَ الثَّانِيَ، وَإِنَّمَا صَارَ فِي صِحَّةِ مِثْلِ هَذَا خِلَافٌ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ. وَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَقْدِ الثَّانِي، وَالِاعْتِقَادُ أَنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا لَا لِمَعْنًى فِي الْعَقْدِ الثَّانِي وَلَكِنْ لِشَيْءٍ خَارِجٍ عَنْهُ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا؛ لَكِنْ إنْ تَزَوَّجَتْ بِنِيَّةِ أَنْ تَفْعَلَ هَذَا بِأَنْ تَنْوِيَ أَنَّهَا تَخْلَعُ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ تَطْلُقْ وَإِلَّا نَشَزَتْ عَنْهُ، وَأَنْ تَحْتَالَ عَلَيْهِ لِتَطْلُقَ " فَهَذَا الْعَقْدُ الْأَوَّلُ أَيْضًا حَرَامٌ؛ وَإِذَا كَانَ مَنْ تَزَوَّجَ بِصَدَاقٍ يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ زَانِيًا أَوْ مَنْ أَدَّانِ دَيْنًا يَنْوِي أَنْ لَا يَقْضِيَهُ سَارِقًا فَمَنْ تَزَوَّجَتْ تَنْوِي أَنْ لَا تُقِيمَ حُقُوقَ الزَّوْجِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ عَاصِيَةً، فَإِنَّهَا مَعَ أَنَّهَا قَصَدَتْ أَنْ لَا تَفِيَ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ قَدْ قَصَدَتْ أَنْ تُفَارِقَهُ لِتَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ، فَصَارَتْ قَاصِدَةً لِعَدَمِ هَذَا الْعَقْدِ وَلِوُجُودِ غَيْرِهِ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، وَتَحْرِيمُ هَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] وَهَذِهِ تَنْوِي أَنْ لَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ فَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ الَّتِي لَا تَظُنُّ إقَامَةَ حُدُودِ اللَّهِ، وَهَذَا مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً وَبِنِيَّتِهِ أَنْ لَا يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي أَوْ يُؤَجِّرَ دَارًا بِنِيَّةِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُسْتَأْجِرَ مِنْ سُكْنَاهَا، بَلْ هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ بِمَنْعِ الْحُقُوقِ حَمْلَهُ عَلَى الْفُرْقَةِ، فَتَقْصِدُ مَنْعَ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَإِزَالَةَ الْمِلْكِ، وَمِثْلُ هَذَا الْعَقْدِ يُطْلِقُ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ صِحَّتَهُ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ الْآخَرَ لَمْ يَفْعَلْ مُحَرَّمًا، فَفِي الْحُكْمِ بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَالْإِبْطَالُ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّهِ فَلَا يُزَالُ عَنْهُ ضَرَرٌ قَلِيلٌ بِضَرَرٍ كَثِيرٍ، وَلَيْسَ الْعَقْدُ حَرَامًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ حَتَّى يَحْكُمَ بِفَسَادِهِ، وَمَتَى حُكِمَ بِالصِّحَّةِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ حُكِمَ بِحِلِّ مَا يَأْخُذُهُ صَاحِبُهُ ذَلِكَ السُّوءُ فَيُحْكَمُ بِوُجُوبِ عِوَضِهِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ آكِلًا لَهُ بِالْبَاطِلِ، وَمَتَى قِيلَ بِوُجُوبِ الْعِوَضِ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا يَجِبُ لِلْآخَرِ الْخَادِعِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَصَدَ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعِوَضَ الْأَوَّلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَزِمَ مِنْ هَذَا اسْتِحْقَاقُهُ لِذَلِكَ الْمَالِ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ.
فَصِحَّةُ الْعَقْدِ تُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَحَدُّ الِانْتِقَاعِ مَشْرُوطٌ بِبَذْلِ الْعِوَضِ فَإِنْ مَنَعَتْ الْمَرْأَةُ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ بِفَسَادِ مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ حَتَّى قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي النَّجْشِ، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَالْمُتَوَجِّهُ