كَرَاهَةَ فِي الدُّعَاءِ بِرَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ اجْتِمَاعٍ لِذَلِكَ وَكَرِهَهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَمَالَ إلَيْهِ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ، وَيَدُلُّ لِمَا مَرَّ مِنْ الْقُنُوتِ لَهُ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ يُشْرَعُ الْقُنُوتُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِنَازِلَةٍ كَالْوَبَاءِ فَقَوْلُهُمَا كَالْوَبَاءِ يَشْمَلُ الطَّاعُونَ إمَّا بِقِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ مَجَازًا كَمَا مَرَّ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُهُ شَهَادَةً وَرَحْمَةً؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْهُ مَوْتُ الْعُلَمَاءِ، وَأَكَابِرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَيَحْصُلُ لِلْإِسْلَامِ بِذَلِكَ ضَعْفٌ، وَوَهْنٌ فَطُلِبَ رَفْعُهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ نَظِيرُ مَا مَرَّ فِي أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ مَعَ كَوْنِهِ شَهَادَةً، وَبِمَا قَرَّرْته يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِكَلَامِ الشَّيْخَيْنِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُ أَخَصُّ مِنْ الْوَبَاءِ وَقَدْ اُخْتُصَّ بِكَوْنِهِ شَهَادَةً، وَرَحْمَةً وَدَعْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ الْوَبَاءِ فَلِهَذَا يُشْرَعُ الدُّعَاءُ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ دُونَهُ قَالَ: وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ اخْتِصَاصُهُ بِتَحْرِيمِ الْفِرَارِ مِنْهُ وَهُوَ مِنْ الْوَبَاءِ بِغَيْرِهِ كَالْحُمَّى، وَسَائِرِ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ جَائِزٌ بِإِجْمَاعٍ اهـ.
وَلَا مُتَمَسَّكَ لَهُ فِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ آخِرًا لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْفِرَارِ تَعَبُّدِيٌّ عِنْدَ قَوْمٍ.
(تَتِمَّاتٌ) يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِطُولِ الْعُمُرِ كَمَا دَعَا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَسٍ وَقَيَّدَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ بِمَنْ فِي بَقَائِهِ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَيُنْدَبُ لَهُ الدُّعَاءُ حِينَئِذٍ فَإِنْ كَانَ نَفْعُهُ قَاصِرًا فَهُوَ دُونَ الْأَوَّلِ قَالَ: وَمَنْ عَدَاهُمَا قَدْ يَصِلُ لِلْكَرَاهَةِ، وَالتَّحْرِيمِ إنْ اتَّصَفَ بِضِدِّهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِفْ فَقَدْ قَالَ: بَعْضُهُمْ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُحِبَّ مَا يُحِبُّهُ إبْلِيسُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ طُولَ الْبَقَاءِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الضَّابِطَ الرُّجُوعُ إلَى الْمُتَعَلِّقِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْأَجَلُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَفَائِدَةُ الدُّعَاءِ تَظْهَرُ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ أَنَّ زَيْدًا عُمْرُهُ ثَلَاثُونَ فَإِنْ دَعَا فَأَرْبَعُونَ، وَعَلَى هَذَا يُنَزَّلُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الدُّعَاءِ اهـ. وَالطَّاعُونُ مِنْ الْأَمْرَاضِ الْمَخُوفَةِ عِنْدَنَا بَلْ أَهْلُ مَحَلَّتِهِ كُلُّهُمْ فِي حُكْمِ الْمَرِيضِ مَرَضًا مَخُوفًا فَلَا يَنْفُذُ تَبَرُّعُهُمْ فِي زَمَنِهِ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ، وَلَوْ مِمَّنْ لَمْ يُصِبْهُ.
وَمِنْهَا يَنْبَغِي أَخْذًا مِمَّا مَرَّ مِنْ مَنْعِ التَّعَرُّضِ لِلْبَلَاءِ، وَمِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الدَّوَاءِ التَّحَرُّزُ أَيَّامَ الْوَبَاءِ مِنْ أُمُورٍ أَوْصَى بِهَا بَعْضُ حُذَّاقِ الْأَطِبَّاءِ وَالِاعْتِنَاءُ بِأُمُورٍ أُخْرَى مِثْلِ إخْرَاجِ الرُّطُوبَاتِ الْفَضْلِيَّةِ، وَتَقْلِيلِ الْغِذَاءِ، وَتَرْكِ الرِّيَاضَةِ، وَالْمُكْثِ فِي الْحَمَّامِ، وَمُلَازَمَةِ السُّكُونِ، وَالدَّعَةِ، وَأَنْ لَا يُكْثِرَ مِنْ اسْتِنْشَاقِ الْهَوَاءِ الْغَضِّ، وَأَوَّلُ مَا يُبْدَأُ بِهِ فِي عِلَاجِ الطَّاعُونِ شَرْطُهُ إنْ أَمْكَنَ لِيَسِيلَ مَا فِيهِ لِئَلَّا تَزْدَادَ سُمِّيَّتُهُ فَإِنْ اُحْتِيجَ لِمَصِّهِ بِالْمِحْجَمَةِ فُعِلَ بِلُطْفٍ، وَيُعَالَجُ أَيْضًا بِمَا يُبَرِّدُ، وَبِإِسْفَنْجَةٍ مَغْمُوسَةٍ فِي خَلٍّ، وَمَاءٍ أَوْ دُهْنِ وَرْدٍ أَوْ دُهْنِ تُفَّاحٍ أَوْ دُهْنِ آسٍ وَبِالِاسْتِفْرَاغِ بِالْفَصْدِ بِمَا يَحْتَمِلُهُ الْوَقْتُ أَوْ يُوجَرُ بِمَا يُخْرِجُ الْخَلْطَ ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى الْقَلْبِ بِالْحِفْظِ، وَالتَّقْوِيَةِ بِالْمُبَرِّدَاتِ قَالَهُ ابْنُ سِينَا، وَبِهِ رَدَّ عَلَى أَطِبَّاءِ الْوَقْتِ فِي تَرْكِهِمْ مُعَالَجَةَ الْمَطْعُونِ رَأْسًا لَكِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الطَّاعُونِ فَسَادُ الْهَوَاءِ الَّذِي مَالَ إلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ سَبَبُهُ وَخْزُ الْجِنِّ كَمَا مَرَّ فَالْأَوْلَى طَرْحُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَذَلِكَ يُطْرَحُ مَا فِي مُفْرَدَاتِ ابْنِ الْبَيْطَارِ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَنَّ مَنْ تَخَتَّمَ بِالْيَاقُوتِ أَوْ عَلَّقَهُ عَلَيْهِ أَمِنَ مِنْ الطَّاعُونِ قَالَ جَمْعٌ مِنْ الْأَطِبَّاءِ: وَيَحْذَرُ الصَّحِيحُ زَمَنَ الطَّاعُونِ مُخَالَطَةَ مَنْ أَصَابَهُ قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيّ: وَمَحَلُّهُ أَنْ يَشْهَدَ عَدْلَا طِبٍّ بِأَنَّ الْمُخَالَطَةَ سَبَبٌ لِأَذَى الْمُخَالِطِ، وَرُدَّ مَا قَالَهُ بِأَنَّهُ يُخَالِفُ شَهَادَةَ الْحِسِّ الْمُشَاهَدِ الْمُتَكَرِّرِ فَإِنَّ كَثِيرِينَ مِنْ الْمُخَالِطِينَ الْمُخَالَطَةَ الْكُلِّيَّةَ لَا يُصِيبُهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ وَقَدْ ثَبَتَ بُطْلَانُ الْعَدْوَى بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَرَضَ يُعْدِي بِمَحْضِ طَبْعِهِ كُفْرٌ، وَبِأَنَّهُ يُعْدِي بِأَمْرٍ خُلِقَ فِيهِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ إلَّا مُعْجِزَةً أَوْ كَرَامَةً مَذْهَبٌ إسْلَامِيٌّ لَكِنَّهُ مَرْجُوحٌ
وَبِأَنَّهُ لَا يُعْدِي بِطَبْعِهِ بَلْ بِعَادَةٍ إلَهِيَّةٍ وَقَدْ تَتَخَلَّفُ نَادِرًا كَذَلِكَ، وَبِأَنَّهُ لَا يُعْدِي أَصْلًا بَلْ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ الْمَرَضُ فَهُوَ بِخَلْقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهِ ابْتِدَاءً وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئًا» وَقَوْلِهِ: «فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ» قِيلَ: وَاسْتُقْرِئَ أَنَّ مَنْ طُعِنَ، وَسَلِمَ لَا يَمُوتُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالطَّعْنِ، وَنُوزِعَ فِيهِ بِأَنَّ جَمْعًا وَقَعَ لَهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ، وَعَلَى تَسْلِيمِ الِاسْتِقْرَاءِ فَحِكْمَتُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا يُسَلِّطُ الْجِنِّيَّ عَلَى الْإِنْسِيِّ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَمِنْ الْآدَابِ الَّتِي يَنْبَغِي فِعْلُهَا عِنْدَ وُقُوعِ الطَّاعُونِ الْمُبَادَرَةُ