الْخُرُوجِ تَعَبُّدِيٌّ؛ لِأَنَّ الْفِرَارَ عَنْ الْمَهَالِكِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَعَلَّلَهُ آخَرُونَ بِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ بِمَحَلٍّ عَمَّ جَمِيعَ مَنْ فِيهِ فَلَا يُفِيدُهُ الْخُرُوجُ شَيْئًا فَكَانَ عَبَثًا، وَبِأَنَّهُ لَوْ مُكِّنَ النَّاسُ مِنْهُ بَقِيَ مَنْ وَقَعَ بِهِ عَاجِزًا عَنْ الْخُرُوجِ فَلَا يَبْقَى لِلْمَرْضَى مُتَعَهِّدٌ وَلَا لِلْمَوْتَى مُجَهِّزٌ، وَأَيْضًا فَفِي خُرُوجِ الْأَقْوِيَاءِ كَسْرٌ لِقُلُوبِ الضُّعَفَاءِ وَقَالَ: ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ النَّهْيُ عَنْ الْخُرُوجِ لِلْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ، وَعَنْ الْقُدُومِ لِدَفْعِ مَلَامَةِ النَّفْسِ قَالَ: غَيْرُهُ: وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ أَحَدٌ لِلْحَتْفِ، وَإِنْ كَانَ لَا نَجَاةَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ، وَفِيهِ الصِّيَانَةُ عَنْ الشِّرْكِ لِئَلَّا يَقُولَ الْقَائِلُ: لَوْ لَمْ أَدْخُلْهُ لَمْ أَمْرَضْ، وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ فُلَانٌ لَمْ يَمُتْ.
وَقَالَ: ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدِي فِي الْجَمْعِ بَيْنَ النَّهْيِ عَنْ الْفِرَارِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْقُدُومِ أَنَّ عِلَّةَ الْقُدُومِ التَّعَرُّضُ لِلْبَلَاءِ وَلَعَلَّهُ لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ نَوْعُ دَعْوَى لِمَقَامِ الصَّبْرِ، وَالتَّوَكُّلِ فَمُنِعَ لِاغْتِرَارِ النَّفْسِ، وَدَعْوَاهَا مَا لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، وَأَمَّا الْفِرَارُ فَقَدْ يَكُونُ دَاخِلًا فِي بَابِ التَّوَغُّلِ فِي الْأَسْبَابِ مُتَصَوِّرًا بِصُورَةِ مَنْ يُحَاوِلُ النَّجَاةَ مِمَّا قُدِّرَ عَلَيْهِ، وَيُشِيرُ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا» فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ التَّمَنِّي لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْبَلَاءِ وَخَوْفِ الْإِضْرَارِ بِالنَّفْسِ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْوُقُوعِ تَسْلِيمًا لِأَمْرِ اللَّهِ مَثَلًا وَإِذَا خَرَجَ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْعَوْدُ خُرُوجًا مِنْ الْمَعْصِيَةِ أَوْ لَا لِانْتِهَائِهَا بِالْخُرُوجِ لَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّنَا مَتَى قُلْنَا بِأَنَّ النَّهْيَ تَعَبُّدِيٌّ وَجَبَ الْعَوْدُ، وَإِلَّا بُنِيَ ذَلِكَ عَلَى عِلَّةِ التَّحْرِيمِ فَعَلَى الْعِلَّةِ الْأُولَى لَا يَجِبُ الْعَوْدُ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ مُكِّنَ النَّاسُ مِنْ الْخُرُوجِ لَضَاعَ الْبَاقُونَ يَجِبُ الْعَوْدُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْغَيْرِ فَلَوْ مَكَّنَّاهُ مِنْ التَّمَادِي لَضَاعَ حَقُّ الْغَيْرِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ بِالْعَوْدِ فَإِنْ قُلْت: فِي عَوْدِهِ دُخُولٌ وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فَتَعَارَضَ فِي حَقِّهِ وَاجِبٌ وَهُوَ الْعَوْدُ، وَمُحَرَّمٌ وَهُوَ الدُّخُولُ فَلِمَ غُلِّبَ الْأَوَّلُ قُلْت: هَذَا التَّعَارُضُ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْآنَ لَا يُسَمَّى ابْتِدَاءً دُخُولٌ، وَالْمُحَرَّمُ إنَّمَا هُوَ ابْتِدَاءُ الدُّخُولِ لَا الدُّخُولُ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ خَرَجَ لَا لِلْفِرَارِ ثُمَّ أَرَادَ الْعَوْدَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ مَعَ أَنَّ فِيهِ دُخُولًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ ابْتِدَاءُ الدُّخُولِ فَقَطْ، وَحِينَئِذٍ فَلَمْ يَتَعَارَضْ مَا مَرَّ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ فَاتَّجَهَ الْبِنَاءُ الَّذِي ذَكَرْته، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ قِيلَ: بِعَدَمِ وُجُوبِ الْعَوْدِ مُطْلَقًا لَمْ يَبْعُدْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَجْهَ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ هَلْ يَدْخُلُ مَكَّةَ، وَالْمَدِينَةَ وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَدِينَةُ، وَمَكَّةُ مَحْفُوفَتَانِ بِالْمَلَائِكَةِ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا أَيْ: طَرِيقٍ أَوْ بَابٍ أَوْ مَدْخَلٍ مَلَكٌ لَا يَدْخُلُهَا الدَّجَّالُ وَلَا الطَّاعُونُ» ، وَضَمِيرُ مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَلَدَيْنِ قَالَ: ابْنُ قُتَيْبَةَ وَلَمْ يَقَعْ بِهِمَا طَاعُونٌ قَطُّ، وَأَقَرَّهُ الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ مِنْهُمْ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أَذْكَارِهِ وَغَيْرُهُ، وَمَا قِيلَ: إنَّهُ دَخَلَهَا فِي عَامِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَسَبْعِ مِائَةٍ فَهُوَ، وَإِنْ نَقَلَهُ جَمَاعَةٌ فَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا ظَنُّوا أَيْ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ وَبَاءً لَا طَاعُونًا كَمَا يَدُلُّ لَهُ كَلَامُ الْفَاسِيِّ فِي مَوْضِعٍ، وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالطَّاعُونِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ يُسَمَّى طَاعُونًا مَجَازًا كَعَكْسِهِ بِجَامِعِ كَثْرَةِ الْمَوْتِ فِيهِمَا كَمَا مَرَّ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ طَاعُونٌ قَطُّ وَلَا يَدْخُلُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ كَمَا مَرَّ وَقَوْلُ الدَّمَامِينِيِّ إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَهْمٌ، وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ فَلَا يَدْخُلُهَا يَعْنِي: الْمَدِينَةَ الدَّجَّالُ وَلَا الطَّاعُونُ إنْ شَاءَ اللَّهُ قِيلَ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ، وَيَحْتَمِلُ التَّبَرُّكَ وَهُوَ أَوْلَى وَقِيلَ: إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالطَّاعُونِ، وَعَدَمُ دُخُولِ الطَّاعُونِ لِلْمَدِينَةِ أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إلَّا مَا شَذَّ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: الْمُرَادُ لَا يَدْخُلُهَا طَاعُونٌ عَظِيمٌ مِثْلُ طَاعُونِ عَمَوَاسَ، وَطَاعُونِ الْجَارِفِ إذْ قَضِيَّتُهُ أَنَّهُ يَدْخُلُهَا طَاعُونٌ غَيْرُ عَظِيمٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْعُلَمَاءُ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ هَلْ يُشْرَعُ الدُّعَاءُ بِرَفْعِهِ أَمَّا الدُّعَاءُ بِرَفْعِهِ، وَالْخُرُوجُ إلَى الصَّحْرَاءِ فَبِدْعَةٌ قِيلَ: بَلْ لَوْ قِيلَ: بِتَحْرِيمِهِ لَكَانَ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ إحْدَاثُ كَيْفِيَّةٍ يَظُنُّ الْجُهَّالُ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَأَمَّا الْقُنُوتُ لَهُ فِي الصَّلَاةِ. فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ عِنْدَ غَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فَبَعْضُهُمْ أَفْتَى بِهِ، وَبَعْضُهُمْ أَفْتَى بِامْتِنَاعِهِ، وَالْأَوْجَهُ الْأَوَّلُ كَمَا بَيَّنْته فِي حَاشِيَةِ الْعُبَابِ، وَغَيْرِهَا مَعَ الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَطَالَ فِي خِلَافِهِ وَلَا