ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ أَحْيَاهُمْ اللَّهُ، وَبَقِيَتْ عَلَيْهِمْ آثَارُ الْمَوْتِ فَلَا يَلْبَسُونَ ثَوْبًا إلَّا صَارَ عَلَيْهِمْ كَفَنًا لِيَعْرِفَهُمْ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَيَعْتَبِرُوا بِهِمْ.

قَالَ: الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ فِرَارَهُمْ مِنْ الطَّاعُونِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب: 16] وقَوْله تَعَالَى {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8] ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» ، وَفِيهِمَا «أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ لِلشَّامِ فَأُخْبِرَ أَنَّ بِهَا وَبَاءً فَاسْتَشَارَ الْمُهَاجِرِينَ فَاخْتَلَفُوا، وَالْأَنْصَارَ فَاخْتَلَفُوا فَدَعَا مَنْ كَانَ هُنَاكَ مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا يُقْدِمَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْوَبَاءِ فَهَمَّ بِالرُّجُوعِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرَك قَالَهَا نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إلَى قَدَرِ اللَّهِ وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَن بْنُ عَوْفٍ غَائِبًا فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: إنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ» .

وَقَدْ وَرَدَ بِمَعْنَى ذَلِكَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي دُخُولِ بَلَدِ الطَّاعُونِ مَثَلًا وَالْخُرُوجِ مِنْهُ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْأَخْذِ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ: التَّاجُ السُّبْكِيّ مَذْهَبُنَا وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْفِرَارِ مِنْهُ لِلتَّحْرِيمِ بَلْ قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: إنَّ الْفِرَارَ مِنْهُ كَبِيرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَاتِبُ الْفَارَّ مِنْهُ مَا لَمْ يَعْفُ عَنْهُ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَابْنِ عَدِيٍّ، وَغَيْرِهِمْ «الْفَارُّ مِنْ الطَّاعُونِ كَالْفَارِّ مِنْ الزَّحْفِ» ، وَبِهِ يُعْلَمُ وَهْمُ ابْنِ رُشْدٍ الْمَالِكِيِّ فِي دَعْوَاهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ، وَضَعْفِ قَوْلِ كَثِيرِينَ أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ قِيلَ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَتَزْيِيفِ الْقَوْلِ بِاسْتِحْبَابِ الْخُرُوجِ عَنْهُ قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيّ: وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْخُرُوجِ لِشُغْلٍ عَرَضَ غَيْرِ الْفِرَارِ، قَالَ: وَلَيْسَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فِيمَنْ خَرَجَ فَارًّا مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَذَلِكَ لَا سَبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِحِلِّهِ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ فِيمَا إذَا خَرَجَ لِلتَّدَاوِي اهـ.

وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْخُرُوجَ لِلتَّدَاوِي غَيْرُ مُحَرَّمٍ فِي مَذْهَبِنَا فَالْعِبَارَةُ الصَّحِيحَةُ أَنْ يُقَالَ: مَحَلُّ النِّزَاعِ إذَا خَرَجَ فَارًّا مِنْ الْمَرَضِ الْوَاقِعِ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ لَوْ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ لَأَصَابَهُ، وَأَنَّ فِرَارَهُ لَا يُنْجِيه لَكِنْ يُؤَمِّلُ النَّجَاةَ وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ مَعَ اعْتِقَادِ إلَخْ مَنْ خَرَجَ فَارًّا مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مُعْتَقِدًا أَنَّ ذَلِكَ يُنْجِيه فَلَا تَوَقُّفَ فِي تَحْرِيمِهِ بَلْ رُبَّمَا يَكْفُرُ بِهِ، وَلَوْ قَصَدَ الْخُرُوجَ لِحَاجَةٍ، وَالْفِرَارَ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِقَدْرِ قَصْدِهِ؛ لِأَنَّ الْفِرَارَ مُحَرَّمٌ وَقَصْدُ الْمُحَرَّمِ حَرَامٌ سَوَاءٌ انْفَرَدَ أَوْ شَارَكَهُ قَصْدُ شَيْءٍ آخَرَ جَائِزٍ، وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ لَوْ كَانَتْ وَخِمَةً، وَاَلَّتِي يُرِيدُ التَّوَجُّهَ إلَيْهَا صَحِيحَةً فَتَوَجَّهَ إلَيْهَا بِهَذَا الْقَصْدِ حَرُمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ صُوَرِ الْفِرَارِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كَمَا اقْتَضَاهُ إطْلَاقُ أَصْحَابِنَا، ثُمَّ مَا الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ فِي أَرْضِ الطَّاعُونِ حَتَّى يَحْرُمَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْهَا، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ وَقَعَ بِإِقْلِيمٍ حَرُمَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْ ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ لَا مِنْ بَعْضِ قُرَاهُ إلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّهَا كُلَّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ الطَّاعُونِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ اخْتَصَّ بِبَلَدٍ أَوْ بِلَادٍ مِنْ إقْلِيمٍ حَرُمَ الْخُرُوجُ مِمَّا اُخْتُصَّ بِهِ إلَى غَيْرِهِ لَا مِنْ بَعْضِ مَا اُخْتُصَّ بِهِ إلَى بَعْضِهِ، وَإِذَا كَانَ فِي بَلَدٍ مَثَلًا فَهَلْ الْفِرَارُ مِنْهَا بِالْخُرُوجِ إلَى خَارِجِ عُمْرَانِهَا أَوْ سُورِهَا أَوْ إلَى خَارِجِ مَزَارِعِهَا لَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ شَيْئًا، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ عُرْفُ أَهْلِهَا فَكُلُّ مَحَلٍّ عَدُّوا الْخُرُوجَ إلَيْهِ فِرَارًا حَرُمَ الْخُرُوجُ إلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَحُكْمُ دُخُولِ مَحَلِّ الطَّاعُونِ كَالْخُرُوجِ مِنْهُ فِيمَا تَقَرَّرَ مِنْ التَّحْرِيمِ، وَغَيْرِهِ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فَقَالَ: وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَنْعُ الْقُدُومِ عَلَى بَلَدِ الطَّاعُونِ، وَمَنْعُ الْخُرُوجِ مِنْهُ فِرَارًا مِنْ ذَلِكَ أَمَّا الْخُرُوجُ لِعَارِضٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ هَذَا مَذْهَبُنَا، وَمَذْهَبُ عَامَّةِ الْجُمْهُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَالْفِرَارِ مِنْهُ اهـ.

قِيلَ: وَالنَّهْيُ عَنْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015