شَهِيدٍ، وَإِنْ سَلِمَ مِنْ الطَّاعُونِ كَمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ كَمَنْ خَرَجَ لِلْجِهَادِ فَمَاتَ قَبْلَهُ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ «وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ» وَلَمْ يَقُلْ بِالطَّاعُونِ وَاحْتِمَالُ كَوْنِهَا لِلسَّبَبِيَّةِ، وَإِنْ أَيَّدَهُ مَا فِي الْحَدِيثِ «وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ» أَيْ: بِهَا لَا يَمْنَعُ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ مَا مَرَّ بَلْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ فِي زَمَنِ الطَّاعُونِ، وَفَضْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاسِعٌ، وَنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ

وَرَوَى أَحْمَدُ «إنَّ أَكْثَرَ شُهَدَاءِ أُمَّتِي لِأَصْحَابِ الْفُرُشِ» وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ اتَّصَفَ بِمَا مَرَّ، وَمَاتَ بِالطَّعْنِ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ لِمَا مَرَّ أَنَّ دَرَجَاتِ الشُّهَدَاءِ مُتَفَاوِتَةٌ فَأَرْفَعُهَا مَنْ اتَّصَفَ بِمَا مَرَّ، وَمَاتَ مَطْعُونًا ثُمَّ مَنْ اتَّصَفَ، وَطُعِنَ وَلَمْ يَمُتْ ثُمَّ مَنْ اتَّصَفَ وَلَمْ يُطْعَنْ، وَمَاتَ زَمَنَ الطَّاعُونِ بِغَيْرِهِ ثُمَّ مَنْ اتَّصَفَ وَلَمْ يُطْعَنْ وَلَا مَاتَ زَمَنَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ تَعَدُّدِ أَجْرِ الشَّهَادَةِ لِمَنْ اجْتَمَعَ فِيهِ سَبَبَانِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَسْبَابِهَا كَغَرِيبٍ مَطْعُونٍ كَمَا يَتَعَدَّدُ الْقِيرَاطُ لِمَنْ صَلَّى عَلَى جَنَائِزَ وَكَمَا أَنَّ مَنْ اقْتَنَى كِلَابًا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ قَرَارِيطُ بِعَدَدِهِمْ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَطْعُونَ شَهِيدٌ مَثَلًا وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا.

بَلْ هُوَ صَرِيحُ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» وَلَا يَلْزَمُ مُسَاوَاتُهُ لِلْعَدْلِ لِتَفَاوُتِ دَرَجَاتِ الشُّهَدَاءِ كَمَا مَرَّ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ شَهِيدَ الْمَعْرَكَةِ لَا يَقْدَحُ فِسْقُهُ فِي شَهَادَتِهِ فَوُجُودُ التَّبِعَاتِ لَا يَقْدَحُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا ثَوَابٌ وَكَرَامَةٌ زَائِدَةٌ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِيه فِسْقٌ وَلَا غَيْرُهُ نَعَمْ صَحَّ أَنَّ الشَّهِيدَ يُغْفَرُ لَهُ كُلُّ ذَنْبٍ إلَّا الدَّيْنَ، وَفِي مَعْنَاهُ سَائِرُ تَبِعَاتِ الْعِبَادِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَاجَهْ «يُغْفَرُ لِشَهِيدِ الْبَرِّ الذُّنُوبُ كُلُّهَا إلَّا الدَّيْنَ وَلِشَهِيدِ الْبَحْرِ الذُّنُوبُ، وَالدَّيْنُ» ضَعِيفٌ فَإِنْ ثَبَتَ حُمِلَ عَلَى مَنْ خَرَجَ مُجَاهِدًا فِي الْبَحْرِ فَغَرِقَ قِيلَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: أَفَادَ اسْتِثْنَاءُ الدَّيْنِ أَنَّ حَقَّ الْعِبَادِ لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ الشَّهَادَةِ، وَأَفَادَ إثْبَاتُهُ أَنَّهُ قَدْ يُوهَبُ مِنْ مَزِيدِ الثَّوَابِ مَا يُوَفِّي مِنْهُ الْمَظَالِمَ الَّتِي فِي قِبَلِهِ، وَيَتَوَفَّرُ لَهُ ثَوَابُ الشَّهَادَةِ كَامِلًا، وَبِمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ مَنْ مَاتَ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الشَّهَادَةِ فَهُوَ شَهِيدٌ.

وَإِنْ مَاتَ فِي مَعْصِيَةٍ جَزَمَ الْإِمَامُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَمَثَّلَ ذَلِكَ بِمَنْ غَرِقَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ قَالَ: وَكُلُّ مَنْ مَاتَ بِسَبَبِ مَعْصِيَةٍ فَلَيْسَ بِشَهِيدٍ، وَإِنْ مَاتَ فِي مَعْصِيَةٍ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الشَّهَادَةِ فَلَهُ أَجْرُ شَهَادَتِهِ، وَعَلَيْهِ إثْمُ مَعْصِيَتِهِ، وَحِكْمَةُ كَوْنِ الطَّاعُونِ لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ مَثَلًا وَالْمَدِينَةَ كَمَا يَأْتِي مَعَ أَنَّهُ شَهَادَةٌ، وَرَحْمَةٌ أَنَّهُ لَيْسَ نَفْسَ الشَّهَادَةِ بَلْ سَبَبُهَا وَلَمَّا كَانَ مِنْ الْجِنِّ مُدِحَتْ الْبَلَدَانِ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُمَا إشَارَةً إلَى أَنَّ كُفَّارَ الْجِنِّ مَمْنُوعُونَ مِنْ دُخُولِهِمَا لِلْعَبَثِ، وَالْفَسَادِ بِأَهْلِهِمَا حِمَايَةً لَهُمْ بِبَرَكَةِ جِوَارِهِ وَجِوَارِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ، وَإِنْ سَلِمَ وُقُوعُهُ مِنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ أَيْضًا فَمُؤْمِنُوهُمْ يُجِلُّونَهُمَا مِنْ إيقَاعِ ذَلِكَ فِيهِمَا عِلْمًا مِنْهُمْ بِجَلَالَتِهِمَا وَتَعْظِيمًا لِحَقِّهِمَا فَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ إلَيْهِمَا طَاعِنٌ أَصْلًا، وَأُجِيبُ أَيْضًا بِأَنَّ سَبَبَ الرَّحْمَةِ لَا يَنْحَصِرُ فِي الطَّاعُونِ.

فَقَدْ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَلَكِنَّ عَافِيَتَك أَوْسَعُ لِي» فَكَانَ عَدَمُ دُخُولِهِمَا مِنْ خَصَائِصِهِمَا وَلَوَازِمِ دُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمَا بِالصِّحَّةِ، وَخَصَّهُمَا بِذَلِكَ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِهِ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَفِي ذَلِكَ مُعْجِزَةٌ كُبْرَى وَهِيَ عَجْزُ الْأَطِبَّاءِ قَاطِبَةً عَنْ حِمَايَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْ الطَّاعُونِ وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ حَمَى هَذَيْنِ مَعَ كَثْرَةِ مَنْ فِيهِمَا مِنْهُ عَلَى مَمَرِّ الْأَعْصَارِ، وَتَوَالِي الْأَزْمَانِ وَقَدْ عَوَّضَنَا عَنْهُ بِالْأَمْنِ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ «مَنْ مَاتَ بِأَحَدِ الْحَرَمَيْنِ بُعِثَ مِنْ الْآمِنِينَ» ، وَبِالشَّفَاعَةِ لِحَدِيثٍ. ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي مُسْنَدِهِ «مَنْ مَاتَ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ اسْتَوْجَبَ شَفَاعَتِي وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْآمِنِينَ» ، وَرُوِيَ أَيْضًا «مَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ أَوْ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ بُعِثَ مِنْ الْآمِنِينَ» قَالَ: الْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ، وَيُرْوَى «الْأَمْنُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ لِمَنْ مَاتَ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ أَوْ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ أَوْ مُرَابِطًا وَلِمَنْ يَقْرَأُ سُورَةَ الْمُلْكِ عِنْدَ مَنَامِهِ»

وَلِكَوْنِهِ شَهَادَةً جَاءَ عِنْدَ الدَّيْلَمِيِّ «أَنَّ الطَّاعُونَ أَوَّلُ رَحْمَةٍ تُرْفَعُ مِنْ الْأَرْضِ» ، وَعِنْدَ ابْنِ السُّنِّيِّ، وَغَيْرِهِ «أَوْشَكَ الْفَالِجُ أَنْ يَفْشُوَ فِي النَّاسِ حَتَّى يَتَمَنَّوْا الطَّاعُونَ مَكَانَهُ» .

وَمِنْهَا الْكَلَامُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَحَلِّهِ، وَالدُّخُولِ إلَيْهِ قَالَ: تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} [البقرة: 243] الْآيَةَ، وَأَقْوَى الطُّرُقِ، وَأَحْسَنُهَا أَنَّ فِرَارَهُمْ كَانَ مِنْ الطَّاعُونِ فَعُوقِبُوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ أَمَاتَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَبْلَ آجَالِهِمْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015