وَاسْتَدَلَّ غَيْرُهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ يَمُوتُ بِالطَّاعُونِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَمُوتُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الطَّاعُونِ الْآخَرِ فَكَيْفَ إذَا انْضَمَّ لِذَلِكَ الْقَتْلُ الْحَاصِلُ فِي الْجِهَادِ، وَفِي الْفِتَنِ الَّتِي لَا تَنْقَطِعُ وَلَا تُحْصَى كَثْرَةً، وَعُمُومًا فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَعَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِلدُّعَاءِ فَلَيْسَ الْقَصْدُ بِهِ الدُّعَاءُ عَلَى الْأُمَّةِ بِالْهَلَاكِ بَلْ الْمُرَادُ الدُّعَاءُ لَهُمْ بِلَازِمِ ذَلِكَ، وَهُوَ حُصُولُ الشَّهَادَةِ لَهُمْ بِكُلٍّ مِنْ ذَيْنِك فَالْقَصْدُ الدُّعَاءُ بِجَعْلِهِمَا سَبَبًا لِلْمَوْتِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ لَا الدُّعَاءُ بِمُطْلَقِ الْهَلَاكِ، وَمِنْ لَازِمِ حُصُولِ الشَّهَادَةِ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ كَفَّارَةً لِمَا يَقَعُ مِنْ الْأُمَّةِ لِمَا وَرَدَ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يَمُرُّ بِذَنْبٍ إلَّا مَحَاهُ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرِينَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَغَيْرِهِمْ تَمَنَّى الشَّهَادَةَ، وَالْمَوْتَ بِالطَّاعُونِ وَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى أَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ تَمْكِينَ الْكَافِرِ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ مَعْصِيَةٌ، وَتَمَنِّي الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُمْ بِتَمَنِّيهَا لَيْسَ ذَلِكَ بَلْ نَيْلُ دَرَجَتِهَا الرَّفِيعَةِ وَلَا نَظَرَ لِفِعْلِ الْكَافِرِ
لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ الْوُجُودِ ثُمَّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ وَخْزُ أَعْدَائِنَا مِنْ الْجِنِّ هُوَ الثَّابِتُ، وَمَا وَقَعَ لِابْنِ الْأَثِيرِ تَبَعًا لِغَرِيبَيْ الْهَرَوِيِّ مِنْ أَنَّهُ " وَخْزُ إخْوَانِكُمْ " فَمَرْدُودٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ بَعْدَ التَّتَبُّعِ الطَّوِيلِ الْبَالِغِ، وَنِسْبَةُ الزَّرْكَشِيّ كَغَيْرِهِ ذَلِكَ إلَى رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَهْمٌ وَكَذَا نِسْبَتُهُ لِمُسْنَدِ الطَّبَرَانِيِّ أَوْ كِتَابِ الطَّوَاعِينِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَعَلَى تَسْلِيمِ وُرُودِهِ فَلَا تَنَافِيَ؛ لِأَنَّ أُخُوَّتَهُمْ فِي الدِّينِ لَا تُنَافِي عَدَاوَتَهُمْ؛ لِأَنَّهَا بِالطَّبْعِ، وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ أَوْ أَنَّ الْأُولَى فِي طَعْنِ كَافِرِهِمْ لِمُسْلِمِنَا، وَالثَّانِيَةُ فِي طَعْنِ مُسْلِمِهِمْ لِكَافِرِنَا أَوْ أَنَّ كُلًّا يُفِيدُ مَا يُفِيدُهُ الْآخَرُ إذْ لَفْظُ " أَعْدَائِكُمْ " عَلَى عُمُومِهِ؛ لِأَنَّ الطَّعْنَ لَا يَقَعُ إلَّا مِنْ عَدُوٍّ فِي عَدُوِّهِ، وَيَكُونُ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْإِنْسِ فَإِنَّ الطَّعْنَ يَكُونُ مِنْ كَافِرِهِمْ فِي مُؤْمِنِنَا أَوْ مِنْ مُؤْمِنِهِمْ فِي كَافِرِنَا، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَنَّهُ «شَهَادَةٌ لِلْمُسْلِمِ، وَرِجْزٌ عَلَى الْكَافِرِ» وَلَفْظُ " إخْوَانِكُمْ " عَلَى عُمُومِهِ أَيْضًا لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أُخُوَّةُ التَّقَابُلِ كَمَا فِي - اللَّيْلُ، وَالنَّهَارُ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أَخَوَانِ - أَوْ أُخُوَّةُ التَّكْلِيفِ
فَإِنَّهُ يَعُمُّهُمْ أَيْضًا وَهُوَ الْمُرَادُ بِهِ فِي حَدِيثِ «زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ» فَإِنَّهُ زَادٌ لِلْكَافِرِ أَيْضًا، وَحِكْمَةُ تَسْلِيطِهِمْ عَلَى الْإِنْسِ بِالطَّعْنِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَنَا بِمُعَادَاةِ أَعْدَائِنَا مِنْهُمْ أَيْضًا وَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلَّا مُسَالَمَتَهُمْ بَلْ، وَمُطَاوَعَتَهُمْ عَلَى مَا يَطْلُبُونَهُ مِنْهُمْ مِنْ الْمَعَاصِي، وَالضَّلَالِ فَسُلِّطُوا عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ كَمَا سُلِّطَ عَلَيْهِمْ أَعْدَاؤُهُمْ مِنْ الْإِنْسِ حَيْثُ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، وَنَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ عُقُوبَةً لِمُسْتَحِقِّهَا، وَشَهَادَةَ رَحْمَةٍ لِأَهْلِهَا وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْعُقُوبَاتِ تَقَعُ عَامَّةً فَتَكُونُ طُهْرًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَانْتِقَامًا لِلْكَافِرِينَ.
وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اخْتَصَّ الْمُؤْمِنَ لِنَفْسِهِ، وَأَرَادَ بِهِ الْخَيْرَ فِي كُلِّ مَا أَصَابَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ أَوْ أَلَمٍ أَوْ لَذَّةٍ وَقَيَّضَ لَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُ لَهُ أَوْ يَشْفَعُ لَهُ أَوْ يُعَاوِنُهُ مِنْ مَلَكٍ، وَنَبِيٍّ، وَمُؤْمِنٍ، وَمَنْ يُعَادِيه مِنْ شَيْطَانٍ يُزِلُّهُ، وَعَدُوٍّ يُقَاتِلُهُ وَجِنِّيٍّ يَخِزُهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ حَافِظٌ وَلِعَدُوِّهِ قَاهِرٌ مَعَ أَنَّهُ إنْ أَصَابَهُ شَرٌّ فَشَكَرَ أَوْ خَيْرٌ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَسَلَّطَ الْجِنَّ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ مَحْفُوظًا فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ كَمَا جَازَ أَنَّهُ يَطْعَنُهُ عَدُوُّهُ الظَّاهِرُ فِي وَقْتٍ مَعَ حِفْظِهِ بِالرُّعْبِ أَوْ النَّصْرِ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ لِإِرَادَةِ الْخَيْرِ بِهِ، وَنَيْلِهِ دَرَجَةَ الشَّهَادَةِ بِقَتْلِ الْعَدُوِّ لَهُ، وقَوْله تَعَالَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141]
أَيْ: مِنْ حَيْثُ الْعُمُومُ فَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنَّهُ يَطْعَنَهُ عَدُوُّهُ الْجِنِّيُّ مَعَ كَوْنِهِ مَمْنُوعًا مِنْهُ بِالْمُعَقِّبَاتِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ لِإِرَادَةِ الْخَيْرِ بِهِ، وَنَيْلِهِ دَرَجَةَ الشَّهَادَةِ مِنْ وَخْزِهِ مَعَ ضَعْفِ كَيَدِهِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ طَعْنُهُ غَيْرَ نَافِذٍ بِخِلَافِ طَعْنِ الْإِنْسِ إذْ ذَاكَ أَصْلُ الْوَخْزِ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا زَايٌ،، وَسَبَبُ عَدَمِ نُفُوذِهِ أَنَّهُ يَقَعُ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ فَيُؤَثِّرُ فِي الْبَاطِنِ أَوَّلًا ثُمَّ قَدْ يَنْفُذُ إلَى الظَّاهِرِ، وَطَعْنُ الْإِنْسِ يُؤَثِّرُ أَوَّلًا فِي الظَّاهِرِ وَلَا يُقَالُ: يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مِنْ وَخْزِ الْجِنِّ عَدَمُ وُقُوعِهِ فِي رَمَضَانَ لِمَا صَحَّ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تُفَلُّ فِيهِ، وَتُصَفَّدُ.
وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ بَلْ كَانَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ تَصْفِيدَهُمْ إنَّمَا هُوَ عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إثْمٌ مِنْ تَزْيِينِ الْمَعْصِيَةِ لِابْنِ آدَمَ حَتَّى يَقَعَ فِيهَا، بِخِلَافِ مَا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ بَلْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ كَالطَّاعُونِ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ كَمَا لَا يُمْنَعُونَ مِمَّا لَا إثْمَ فِيهِ وَلَا ثَوَابَ كَالِاحْتِلَامِ