وَقَفْتُ هَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ جِهَةً بَطَلَ وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ النِّهَايَةِ فِيهِ نَظَرٌ، وَإِنْ اقْتَضَى كَلَامُ الْأَصْبَحِيِّ اعْتِمَاده وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينٌ لِلْجِهَةِ وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ خَيْرَانَ ضَعِيفٌ، وَالْمُعْتَمَدُ الصِّحَّةُ وَيَجُوز الِاقْتِصَارُ فِي الصَّرْفِ عَلَى ثَلَاثَةٍ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرُوهَا وَإِذَا قُلْنَا: بِالصِّحَّةِ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَة بِإِرَادَةِ مَكَان مُعَيَّنٍ الَّذِي يُتَّجَهُ أَنَّ النَّاظِرَ الْخَاصَّ أَوْ الْعَامَّ وَهُوَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِ الْوَقْفِ حَاكِمٌ فَأَهْلُ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ مِنْ أَهْلِهَا يَتَوَلَّى صَرْفَ هَذَا الْوَقْف فِي الْفُطُورِ أَوْ إطْعَام الْوَارِدِينَ فِي أَيِّ مَكَان اقْتَضَى نَظَرُهُ أَنَّ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ بَلَدِ الْوَقْفِ؛ لِأَنَّ الْجِهَةَ إذَا لَمْ يُعَيَّنْ لِلصَّرْفِ فِيهَا مَكَانٌ كَانَ الْخِيَرَةُ فِي الصَّرْفِ فِيهَا إلَى النَّاظِرِ كَمَا لَا يَخْفَى وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ أَنَّ النَّاظِرَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ مِنْهَا فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّاظِرِ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ إلَّا مَا شُرِطَ لَهُ وَبِأَنَّهُ لَوْ عَمِلَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا فَلْيَرْفَعْ الْأَمْرَ إلَى حَاكِمٍ لِيُقَرِّرَ لَهُ أُجْرَةَ مِثْلِ فِعْلِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِالْأَخْذِ قِيَاسًا عَلَى الْوَالِي لِتَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّهُ فِي مَالِ الْوَقْفِ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَخْذِهِ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْعُ إعْطَائِهِ لِمَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ فَيُحْتَمَلُ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذَا قَالَ الْمُوصِي: ضَعْ ثُلُثِي حَيْثُ شِئْت لَمْ يَضَعْهُ فِي نَفْسِهِ وَابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ وَلَا وَرَثَةُ الْمُوصِي وَلَا فِيمَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْمَيِّتِ وَأَفْتَى الدَّارِمِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: فَرِّقْ ثُلُثِي لَمْ يُعْطِ نَفْسَهُ وَلَا مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا مَنْ يَخَافُهُ أَوْ يَسْتَصْلِحُهُ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَهُ الصَّرْفُ لِأَبَوَيْهِ وَأَوْلَادِهِ وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْوَصِيِّ الْأَوَّلِ وَقِيَاسُهُ أَنَّ النَّاظِرَ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّ الْمُوصِي فَوَّضَ لِلْوَصِيِّ الدَّفْعَ لِمَنْ شَاءَ وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ شَاءَ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ لَمْ يَجُزْ، فَالنَّاظِرُ كَذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ الْفَرْقُ بِأَنَّ الْوَقْفَ هُنَا عَلَى جِهَةٍ فَأَفْرَادُهَا لَيْسُوا مَقْصُودِينَ بِطَرِيقِ الذَّاتِ بَلْ مِنْ حَيْثُ دُخُولِهِمْ تَحْتَ ضَابِطِ تِلْكَ الْجِهَةِ وَمُسَمَّاهَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّهَا لَمْ يُقْصَدْ بِهَا الْجِهَةُ، وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهَا أَفْرَادٌ مِنْ النَّاسِ لَكِنْ وُكِّلَ تَعْيِينُهُمْ إلَى الْوَصِيِّ وَاجْتِهَادِهِ فَاخْتِيَارُهُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ يُنَافِي مَا فَوَّضَهُ إلَيْهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ أُولَئِكَ لِلنَّفْسِ فِيهِ حَظٌّ وَيَعُودُ عَلَيْهِ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ إذْنُ الْمُوصِي وَتَفْوِيضُهُ التَّعْيِينَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ دَاعِيَةَ إيثَارِهِمْ تَبْطُلُ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الِاجْتِهَادِ وَتَقْضِي أَنَّ سَبَبَهُ عَوْدُ مَنْفَعَة عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ مَوْجُودًا فِي نَاظِرِ الْوَقْفِ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ رَبَطَ الِاسْتِحْقَاقَ فِي وَقْفِهِ بِجِهَةٍ مَوْصُوفَة بِوَصْفٍ فَكَانَ مِنْ وَجْه مُتَّصِفًا بِتِلْكَ الصِّفَةِ جَازَ إعْطَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا اجْتِهَادَ هُنَا حَتَّى يُقَالَ فِيهِ بِمِثْلِ مَا مَرَّ فِي الْوَصِيِّ وَاَلَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدِي الْآنَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ قِيَاسًا عَلَى الْوَصِيِّ وَلَا تَأْثِيرَ لِلْفَرْقِ الْمَذْكُورِ لِمَا عَلِمْت أَوَّلًا مِنْ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِمَنْعِ أَخْذِهِ لِنَفْسِهِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ إعْطَاءَ مُمَوَّنِهِ فِيهِ إعْطَاءٌ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ بِهِ تَتَوَفَّرُ مُؤْنَةُ الْمُمَوِّنِ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ نَعَمْ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ لَا يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ بِالْإِعْطَاءِ شَيْءٌ كَأَنْ كَانَ عَلَى الْمُمَوَّنِ دَيْنٌ أَوْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ لَا يَكْفِيهَا مَا يَجِبُ لَهَا مِنْ النَّفَقَةِ فَلَا يَبْعُدُ حِينَئِذٍ جَوَازُ الدَّفْعِ إلَيْهِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِمْ وَيَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ بِنَظِيرِ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنْ اقْتَضَى إطْلَاقُ الشَّافِعِيِّ وَالدَّارِمِيِّ السَّابِقُ خِلَافَهُ، فَإِنْ قُلْت: قَضِيَّةُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَا هُنَا وَالْوَصِيَّةِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي أَنَّ النَّاظِرَ لَا يَجُوزُ لَهُ الدَّفْعُ إلَى وَرَثَة الْوَاقِفِ كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ الدَّفْع إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ قُلْت: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ وَهُوَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ مُمْتَنِعَةٌ إلَّا بِإِجَازَةِ بَاقِي الْوَرَثَةِ بِخِلَافِ الْوَقْفِ عَلَيْهِ فَلَمْ يُحْمَلْ لَفْظُ الْمُوصِي عَلَى مَا يَشْمَلُ وَارِثَهُ بِخِلَافِ لَفْظِ الْوَاقِفِ لِصَدَقَتِهِ الدَّائِمَةِ وَهِيَ عَلَى الْقَرِيبِ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى الْبَعِيدِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّ أَظْهَرَ مَقَاصِدِهَا التَّمْلِيكُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ حِينَئِذٍ مُمْتَنِعٌ عَلَى الْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْمَوْتِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ فُرْقَانُ مَا بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَإِنْ قُلْت: مَرَّ عَنْ الدَّارِمِيِّ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يُعْطِي مَنْ يَخَافُهُ أَوْ يَسْتَصْلِحُهُ فَهَلْ يُقَالُ بِنَظِيرِهِ فِي نَاظِرِ الْوَقْفِ؟ قُلْت: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: بِنَظِيرِ هَذَا أَيْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِالْفَرْقِ وَهُوَ الَّذِي يُتَّجَهُ وَيُفَرَّقُ بِأَنَّ غَرَضَ الْخَوْفِ أَوْ الِاسْتِصْلَاحِ يُنَافِي مَا فَوَّضَهُ إلَيْهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ فِي الْوَقْفِ فَإِنَّ