(فَأَجَابَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ بِأَنَّ مَا نُقِلَ مِنْ أَنَّ الشَّعْرَ طَاهِرٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِ مُذَكَّاةٍ دُونَ بَقِيَّةِ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا تَصِيرُ أَجْزَاؤُهَا طَاهِرَةً إلَّا بِالذَّبْحِ لَمْ أَرَهُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَكَأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّ الشَّعْرَ أَيْ وَنَحْوَهُ كَالصُّوفِ وَالْوَبَرِ وَالرِّيشِ إذَا كَانَ مِنْ مَأْكُولٍ، وَانْفَصَلَ فِي الْحَيَاةِ يَكُونُ طَاهِرًا بِخِلَافِ نَحْوِ الْقَرْنِ وَالْعَظْمِ وَالظِّلْفِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ طَاهِرَةً مِنْ الْمَأْكُولِ إلَّا إذَا انْفَصَلَتْ بَعْدَ الذَّبْحِ دُونَ مَا إذَا انْفَصَلَتْ قَبْلَهُ فَقَدْ عُهِدَ لِنَحْوِ الشَّعْرِ حَالَةٌ يُحْكَمُ لَهُ فِيهَا بِالطَّهَارَةِ مَعَ الْحُكْمِ بِالنَّجَاسَةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِنَحْوِ الْعَظْمِ فَمِنْ ثَمَّ افْتَرَقَا فَهَذَا الْفَرْقُ، وَإِنْ تُخُيِّلَ لَكِنَّهُ لَا يُجْدِي مَا ذُكِرَ مِنْ الْحُكْمِ بِالطَّهَارَةِ لِنَحْوِ الشَّعْرِ وَالنَّجَاسَةِ لِنَحْوِ الْعَظْمِ.

فَإِنَّ هَذَا الْفَرْقَ إنَّمَا يَتَأَتَّى فِي نَحْوِ شَعْرٍ عُلِمَ حَالُهُ وَنَحْوِ عَظْمٍ كَذَلِكَ وَهَذَا لَا كَلَامَ فِيهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا جُهِلَ حَالُهُ مِنْهُمَا فَلَمْ يُدْرَ هَلْ هُوَ مِنْ مَأْكُولٍ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ انْفَصَلَ قَبْلَ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ أَوْ الْمَوْتِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا حِينَئِذٍ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ؛ لِأَنَّا إنْ نَظَرْنَا لِحَالَةِ اتِّصَالِهِمَا فَهُمَا طَاهِرَانِ أَوْ لِحَالَةِ انْفِصَالِهِمَا بَعْدَ الذَّبْحِ، وَهُمَا مِنْ مَأْكُولٍ فَهُمَا كَذَلِكَ أَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُمَا نَجِسَانِ أَوْ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَأَمْرُهُمَا مَشْكُوكٌ، فَهُمَا عِنْدَ الْجَهْلِ بِحَالِهِمَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِطَهَارَتِهِمَا أَوْ نَجَاسَتِهِمَا، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْكُلَّ طَاهِرٌ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ مَأْكُولٍ، وَأَنَّهُ انْفَصَلَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا طَهَارَتَهُ عِنْدَ اتِّصَالِهِ وَشَكَكْنَا فِي مُوجِبِ نَجَاسَتِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِ مَأْكُولٍ انْفَصَلَ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ فِي حَيَاتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِنَحْوِ الْعَظْمِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ طَرْقِ مَا يُنَجِّسُهُ فَهُوَ مِنْ قَاعِدَةٍ تُعَارِضُ الْأَصْلَ وَغَيْرَهُ.

وَحَاصِلُ مَا فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ فِيهَا عَنْ الْأَصْحَابِ، أَنَّ الْأَصْلَ وَالْيَقِينَ لَا يُتْرَكُ حُكْمُهُ بِالشَّكِّ إلَّا فِي مَسَائِلَ يَسِيرَةٍ لِأَدِلَّةٍ خَاصَّةٍ، وَبَعْضُهَا إذَا حُقِّقَ كَانَ دَاخِلًا فِي الْقَاعِدَةِ فَلَوْ كَانَ مَعَهُ نَحْوُ مَاءٍ أَوْ عَصِيرٍ مِمَّا أَصْلُهُ الطَّهَارَةُ وَتَرَدَّدَ فِي نَجَاسَتِهِ لَمْ يَضُرَّ تَرَدُّدُهُ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى طَهَارَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ تَرَدُّدُهُ بَيْنَ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ مُسْتَوِيًا أَوْ تَرَجَّحَ احْتِمَالُ النَّجَاسَةِ حَتَّى غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ الْحُكْمُ بِهَا، فَإِنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَإِنْ اسْتَنَدَ الْحُكْمُ بِهَا إلَى سَبَبٍ مُعَيَّنٍ لَا بِقَيْدِهِ الْآتِي، كَمَقْبَرَةٍ شُكَّ فِي نَبْشِهَا وَثِيَابِ مُتَدَيِّنِينَ بِالنَّجَاسَةِ وَمُدْمِنِي الْخَمْرِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْقَصَّابِينَ وَالْجُوخِ، وَقَدْ اُشْتُهِرَ عَمَلُهُ بِشَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالْوَرَقِ يُنْشَرُ رَطْبًا عَلَى الْحِيطَانِ النَّجِسَةِ وَالْخَزَفِ الْآجُرِّ خِلَافًا لِمَنْ قَطَعَ بِنَجَاسَتِهِ كَالْمَاوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِ نَظَرًا لِاطِّرَادِ الْعَادَةِ بِاسْتِعْمَالِ السِّرْجِينِ فِيهِ وَالْجُبْنِ الْمَجْلُوبِ مِنْ بِلَادِ الْفِرِنْجِ.

وَإِنْ اُشْتُهِرَ عَمَلُهُ بِإِنْفَحَةِ الْخِنْزِيرِ أَوْ الْمِلْحِ الَّذِي فِي جِلْدِهَا وَالْفِرَاءِ السِّنْجَابِ وَنَحْوِهَا وَإِنْ اُشْتُهِرَ أَنَّهَا لَا تُذْبَحُ وَإِنَّمَا تُخْنَقُ، فَكُلُّ هَذِهِ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهَا عَمَلًا بِالْأَصْلِ نَعَمْ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ مَا غَلَبَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ، ثُمَّ مَحَلُّ الْعَمَلِ بِالْأَصْلِ إذَا اسْتَنَدَ ظُنَّ النَّجَاسَةُ إلَى غَلَبَتِهَا فَحَسْبُ. أَمَّا لَوْ اسْتَنَدَ إلَى عَلَامَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ فَيُعْمَلُ بِهَا كَمَا لَوْ رَأَى ظَبْيَةً تَبُولُ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ فَوَجَدَهُ عَقِبَ الْبَوْلِ مُتَغَيِّرًا وَشَكَّ فِي أَنَّ تَغَيُّرَهُ بِهِ أَوْ بِنَحْوِ طُولِ الْمُكْثِ وَاحْتُمِلَ تَغَيُّرُهُ بِهِ فَحِينَئِذٍ يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ؛ لِاسْتِنَادِهِ إلَى سَبَبٍ مُعَيَّنٍ كَخَبَرِ الْعَدْلِ بِخِلَافِ مَا لَمْ يُوجَدْ عَقِبَ الْبَوْلِ مُتَغَيِّرًا بِأَنْ غَابَ عَنْهُ زَمَنًا ثُمَّ وَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا أَوْ وُجِدَ عَقِبَ الْبَوْلِ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ ثُمَّ تَغَيَّرَ، وَلَمْ يَقُلْ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّ تَغَيُّرَهُ مِنْهُ أَوْ وُجِدَ عَقِبَهُ مُتَغَيِّرًا وَلَمْ يُحْتَمَلْ تَغَيُّرُهُ بِهِ لِقِلَّتِهِ فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَمْ يُعَارِضْهُ شَيْءٌ.

وَكَمَا لَوْ وَجَدَ قِطْعَةَ لَحْمٍ مَكْشُوفَةً فِي غَيْرِ إنَاءٍ أَوْ كَانَتْ فِي إنَاءٍ أَوْ خِرْقَةٍ لَكِنْ فِي بَلَدٍ فِيهِ مَنْ لَا يَحِلُّ ذَبْحُهُ وَمَنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ سَوَاءٌ اسْتَوَيَا أَوْ غَلَبَ مَنْ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ حِينَئِذٍ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ أَمَّا عِنْدَ غَلَبَةِ مَنْ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ فَوَاضِحٌ وَأَمَّا عِنْدَ اسْتِوَائِهِمَا فَتَغْلِيبًا لِلْمَانِعِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ مَنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ أَغْلَبُ فَإِنَّهَا تَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا ذَبِيحَةُ مُسْلِمٍ، وَكَمَا لَوْ جَرَحَ صَيْدًا فَغَابَ عَنْهُ ثُمَّ وُجِدَ مَيِّتًا فَإِنْ وُجِدَ الْمَوْتُ عَقِبَ الْجُرْحِ أُحِيلَ عَلَى السَّبَبِ وَإِلَّا فَلَا فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ وَنَحْوِهَا أَعْنِي مَسْأَلَةَ الظَّبْيَةِ وَمَا بَعْدَهَا حُكِمَ فِيهَا بِالنَّجَاسَةِ أَوْ عَدَمِ الْحِلِّ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ أَوْ سَبَبٍ قَوِيٍّ اقْتَضَى ذَلِكَ، وَهُوَ الْعَلَامَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَيْنِ الظَّاهِرِ أَثَرُهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِمَّا مَرَّ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ سَبَبٌ قَوِيٌّ كَذَلِكَ يَقْتَضِي الْخُرُوجَ عَنْ الْأَصْلِ فَحُكِمَ بِطَهَارَتِهِ عَلَى الْأَصْلِ فَكَذَا يُقَالُ فِي نَحْوِ الشَّعْرِ وَالْعِظَامِ: الْأَصْلُ فِيهِ الطَّهَارَةُ وَلَمْ يُوجَدَ سَبَبٌ قَوِيٌّ كَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ الْأَصْلِ فَعُمِلَ بِهِ فِيهِ.

فَإِنْ قُلْت لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ وُجُودِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015