التَّحَاكُمِ إلَيْهِ أَنَّ مِنْ عَادَتِهِ الْأَخْذَ مِنْ الْخُصُومِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا وَلَا مِنْ أَحَدِهِمَا شَيْئًا عَاشِرُهَا أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الْمَأْخُوذِ مَعْلُومًا يَتَسَاوَى فِيهِ جَمِيعُ الْخُصُومِ وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الْمَطَالِبِ فَإِنْ فَاضَلَ بَيْنَهُمْ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَتَفَاضَلُوا فِي الزَّمَانِ قَالَ أَعْنِي الْمَاوَرْدِيُّ وَفِي هَذَا مَعَرَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَيْ حَيْثُ أَحْوَجُوا الْقَاضِيَ إلَى الْأَخْذِ مِنْ الْخَصْمَيْنِ وَلَمْ يَرْزُقْهُ إمَامُهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ يَرْزُقُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ أَيْ بِنَاءً عَلَى مَا مَرَّ عَنْ الرَّافِعِيِّ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَإِنْ جَازَ ذَلِكَ فِي الضَّرُورَةِ فَوَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ وَالْمُسْلِمِينَ أَنْ يُزَالَ هَذَا إنْ أَمْكَنَ إمَّا بِأَنْ يَتَطَوَّعَ بِالْقَضَاءِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَإِمَّا بِأَنْ يُقَامَ لِهَذَا بِالْكِفَايَةِ لِأَنَّهُ مِنْ الْفُرُوضِ فَلَوْ اجْتَمَعَ أَهْلُ الْبَلَدِ عِنْدَ إعْوَازِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا لِلْقَاضِي رِزْقًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ جَازَ وَكَانَ أَوْلَى مِنْ أَخْذِهِ مِنْ الْخُصُومِ. اهـ.

وَإِذَا تَأَمَّلْت مَا تَقَرَّرَ عَلِمْت أَنَّ جَوَازَ أَخْذِ الْقَاضِي مِنْ الْخَصْمَيْنِ إنَّمَا هُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ بِنَاءً عَلَى مَا مَرَّ عَنْ شُرَيْحٍ وَاعْتَمَدَهُ السُّبْكِيّ وَالزَّرْكَشِيُّ وَمَعَ كَوْنِهِ وَجْهًا مَرْجُوحًا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ الْكَثِيرَةِ الْمَشَقَّةِ فَمَنْ أَرَادَ الْبَرَاءَةَ لِدِينِهِ وَالْخُلُوصَ مِنْ وَرْطَةِ هَذَا الْخِلَافِ وَهَذِهِ التَّشْدِيدَاتِ الْعَظِيمَةِ فَلْيَتْرُكْ الْقَضَاءَ أَوْ يَتَطَوَّعْ بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَرْزُقُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ كَمَا أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] وَأَمَّا مَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ لِيَتَأَثَّلَ بِهِ الْأَمْوَالَ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا فَهُوَ الَّذِي أُخْبِرَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ فِي النَّارِ وَبِأَنَّهُ «ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَائِبِ وَالْمَعَائِبِ الَّتِي تَلْحَقُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] وَأَمَّا أَخْذُ الْقَاضِي مِنْ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَالْأَوْقَافِ الَّتِي لَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ فَمَشْهُورٌ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ حَرَامٌ مُطْلَقًا وَمِنْ ثَمَّ أَسْقَطَ حِكَايَةَ حِلِّ ذَلِكَ مِنْ الرَّوْضَةِ مَعَ أَنَّهُ فِي أَصْلِهَا فَإِنَّهُ نَقَلَ أَنَّ ابْنَ كَجٍّ حَكَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ

فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ عُشْرَ مَا يَتَوَلَّاهُ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْوَقْفِ لِلضَّرُورَةِ قَالَ ثُمَّ بَالَغَ ابْنُ كَجٍّ فِي إنْكَارِ هَذَا الْمَحْكِيِّ. وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَعَلَى هَذَا الْمَحْكِيِّ فَذِكْرُ الْعُشْرِ تَمْثِيلٌ وَتَقْرِيبٌ وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ النَّظَرِ إلَى كِفَايَتِهِ وَقَدْرِ الْمَالِ وَالْعَمَلِ وَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي الْقُطْرِ الْمَذْكُورِ فِي السُّؤَالِ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْمَكْسِ بَلْ هُوَ عَيْنُهُ فَإِذَا أَخَذَ الْقَاضِي مِنْهُ شَيْئًا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ فَهُوَ مَكَّاسٍ لَا قَاضٍ وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ وَبَعِيدٌ مَا بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ مَرْتَبَةِ الْقَضَاءِ الَّتِي هِيَ أَجَلُّ الْمَرَاتِبِ الدِّينِيَّةِ بَعْدَ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى، وَمَرْتَبَةِ أَخْذِ الْمَكْسِ الَّتِي هِيَ أَسْفَلُ الْقَبَائِحِ وَأَشْنَعُ الْخِصَالِ وَأَبْشَعُ الْفِعَالِ وَأَقْرَبُ أَنْوَاعِ الْفِسْقِ إلَى الْكُفْرِ لِأَنَّ أَهْلَهَا كَثِيرًا مَا يَقَعُونَ فِي الْكُفْرِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْهُمْ فَعَلَى الْقَاضِي الدَّيِّنِ الْمُوَفَّقِ الْخَائِفِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسَطْوَةِ عَذَابِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ وَنَارِ غَضَبِهِ وَقَطِيعَةِ هَجْرِهِ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مُطْلَقًا لِأَنَّهُ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا كَانَ حَرَامًا كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَسُوغُ لِلْقَاضِي أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ تَرْكُهُ وَالتَّوْبَةُ الصَّحِيحَةُ مِمَّا أَخَذَهُ قَبْلُ وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِدَّ لِجَوَابِ ذَلِكَ غَدًا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ {لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان: 41] جَعَلَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ الْأَغْنِيَاءِ بِهِ وَوَفَّقَنَا لِمَا يُنْجِينَا مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ وَمِحْنَةٍ وَشَرٍّ آمِينَ.

(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَا لَفْظُهُ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الثُّبُوتِ الْمُجَرَّدِ وَغَيْرِهِ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ وَمَا فَائِدَتُهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ الْمُجَرَّدِ وَغَيْرِهِ؟

(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِ بِقَوْلِهِ مَعْنَى الثُّبُوتِ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ وَثُبُوتُ عَدَالَتِهَا عِنْدَهُ ثُمَّ إنْ لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ حُكْمٌ بِالْمُدَّعَى سُمِّيَ ثُبُوتًا مُجَرَّدًا وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ الرُّجُوعُ عَنْ شَهَادَتِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا وَثُبُوتُ عَدَالَتِهَا عِنْدَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْقَاضِي غَيْرُ عَدَالَتِهِ بِخِلَافِ نَفْيِ الْعَدَاوَةِ وَالتُّهْمَةِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ، وَإِنْ انْضَمَّ إلَيْهِ حُكْمٌ بِالْمُدَّعَى سُمِّيَ ثُبُوتًا غَيْرَ مُجَرَّدٍ وَمِنْ فَوَائِدِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ نَقْلُ الْحُكْمِ وَلَوْ فِي الْبَلَدِ بِخِلَافِ الثُّبُوتِ وَمَعْنَى الثُّبُوتِ فِي الْفَاسِدِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْحَاكِمُ إبْطَالَ عَقْدٍ اُشْتُرِطَ ثُبُوتُهُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015