اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِهِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ هَذَا أَمَّا إذَا أَفْتَى بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ مُتَبَحِّرًا فِيهِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا قَالَ وَكَانَ ابْنُ سُرَيْجٍ يُفْتِي أَحْيَانًا بِمَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَانُوا يَأْتُونَهُ بِمَسَائِلَ يَسْأَلُونَهُ تَخْرِيجَهَا عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَيُخَرِّجُهَا عَلَى أَصْلِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَجُوزُ لَهُ وَإِلَّا فَيَمْتَنِعُ وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ فِي مَذْهَبِ نَفْسِهِ لَا يَعْرِفُ إلَّا يَسِيرًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ اهـ.

وَإِذَا تَأَمَّلْت فِي هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْجُوَيْنِيُّ وَشَنَّعَ بِهِ عَلَى الْقَفَّالِ وَأَطَالَ فِيهِ عَلِمْت أَنَّهُمَا لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ كَلَامَ الْقَفَّالِ فِيمَنْ يَرْوِي لِمُسْتَفْتِيهِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مَذْهَبَهُ كَذَا لَا مِنْ حَيْثُ اسْتِنْبَاطُهُ هُوَ وَلَا مِنْ حَيْثُ فَهْمُهُ لَهُ مِنْ كَلَامِهِ وَإِنَّمَا هُوَ نَاقِلُهُ عَنْ أَئِمَّةِ مَذْهَبِهِ الْعَارِفِينَ وَالْمُتَبَحِّرِينَ فِيهِ وَإِذَا حُمِلَ كَلَامُ الْقَفَّالِ عَلَى هَذَا لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا قَالَهُ الْجُوَيْنِيُّ لِأَنَّ كَلَامَهُ فِيمَنْ يُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِ إمَامِهِ اسْتِنْبَاطًا فَلَا بُدَّ مِنْ تَبَحُّرِهِ فِي ذَلِكَ الْمَذْهَبِ كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يُفْتِيَ فِي مَذْهَبِهِ كَذَلِكَ وَكَلَامُ الْجُوَيْنِيِّ وَحِكَايَتُهُ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ مَا صَرَّحَ بِهِ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْته فَتَدَبَّرْهُ.

فَإِنَّ هَذَا الْمَقَامَ قَدْ يُشْكِلُ وَيُظَنُّ أَنَّ الْقَفَّالَ وَالْجُوَيْنِيَّ تَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَمَا بَيَّنْته وَحَقَّقْته ثُمَّ رَأَيْت لِبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ مَا يُصَرِّحُ بِمَا ذَكَرْته وَهُوَ قَوْلُهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِحِكَايَةِ قَوْلِ غَيْرِهِ إلَّا إذَا سُئِلَ عَنْ حِكَايَةِ قَوْلِ غَيْرِهِ لَا مُطْلَقًا وَإِلَّا لَجَازَ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ. اهـ.

فَقَوْلُهُ إلَّا إلَخْ مُصَرِّحٌ بِمَا ذَكَرْته وَقَوْلُهُ وَإِلَّا إلَخْ مَحَلُّهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ مَا إذَا كَانَ يُفْتِي بِمَا فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ لَا مَعَ بَيَانِهِ بَلْ عَلَى صُورَةِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَعَلَى مَا تَقَرَّرَ يُحْمَلُ أَيْضًا قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمُوَافِقُ لِمَا مَرَّ عَنْ الْجُوَيْنِيِّ لَا يَجُوزُ لِلْعَالِمِ أَنْ يُفْتِيَ بِقَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ عِلَّتَهُ خِلَافًا لِأَصْحَابِ الرَّأْيِ ثُمَّ قَوْلُ السَّائِلِ نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ حَتَّى تَوَهَّمَ بَعْضُ الْمُتَفَقِّهَةِ إلَخْ جَوَابُهُ أَنَّ مَا تَوَهَّمَهُ حَقٌّ إنْ أُرِيدَ أَنَّا نَعْتَقِدُ خَطَأَهُ وَبُطْلَانَ صَلَاتِهِ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ. وَلَا قَائِلَ بِهَذَا لِأَنَّا إنْ قُلْنَا إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَوَاضِحٌ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْمُصِيبَ لِلْحَقِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّه تَعَالَى وَفِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ مُبْهَمٌ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُكَلَّفُوا إصَابَةَ ذَلِكَ إلَّا بِحَسَبِ ظُنُونِهِمْ فَحَسْبُ وَكُلٌّ مِنْهُمْ مُصِيبٌ لَهُ بِحَسَبِ ظَنِّهِ فَهُوَ عَلَى هُدًى مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ.

وَإِنْ فُرِضَ خَطَؤُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْخَطَإِ الْمَرْفُوعِ بَلْ مَعَ ذَلِكَ هُوَ مُثَابٌ مَأْجُورٌ لَكِنْ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَقَصْدِهِ الْحَقَّ فَقَطْ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَإِنْ سُئِلْتَ عَنْ صَلَاةِ مُخَالِفٍ فِيهَا مُبْطِلٌ يَرَاهُ مُقَلَّدُك دُونَ مُقَلَّدِهِ فَلَا يَسَعُك أَنْ تُطْلِقَ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا بَاطِلَةٌ إلَّا مَعَ إرَادَتِك أَوْ تَصْرِيحِك بِأَنَّ بُطْلَانَهَا إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِاعْتِقَادِ مُقَلَّدِك فَمُقَلِّدُوهُ لَوْ فَعَلُوهَا كَانُوا آتِينَ بِصَلَاةٍ بَاطِلَةٍ فَيُعَامَلُونَ بِأَحْكَامِهَا مِنْ نَحْوِ الْفِسْقِ وَالتَّعْزِيرِ وَغَيْرِهِمَا وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِاعْتِقَادِ غَيْرِهِ فَهِيَ صَحِيحَةٌ فَمُقَلِّدُوهُ آتُونَ بِصَلَاةٍ صَحِيحَةٍ فِي الثَّوَابِ وَالْعَدَالَةِ وَغَيْرِهِمَا فَاخْتِلَافُ الْأَحْكَامِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ الَّتِي لَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ فِيهَا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ بَلْ يَجِبُ رِعَايَةُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ وَلَا بِدْعَ فِي كَوْنِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُ بِاعْتِبَارِ مَحَالِّهِ وَجِهَاتِهِ وَإِضَافَاتِهِ هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلِاعْتِقَادَاتِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَذَلِكَ غَيْبٌ عَنَّا لَا يَنْكَشِفُ لَنَا إلَّا فِي الْآخِرَةِ.

إذْ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيّ وَتَبِعُوهُ أَنَّ مَنْ صَلَّى صَلَاةً بَاطِلَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَصَحِيحَةً فِي اعْتِقَادِهِ لَا يُثَابُ إلَّا عَلَى نَحْوِ أَذْكَارِهَا مِمَّا لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى الصَّلَاةِ كَقَصْدِهِ لَهَا وَسَعْيِهِ فِي حُصُولِهَا وَأَمَّا عَلَى الصَّلَاةِ نَفْسِهَا فَلَا يُثَابُ نَعَمْ إنْ قُلْنَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَيَنْبَغِي أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهَا مُطْلَقًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَفِي كَلَامِ الْبَغَوِيِّ شَيْءٌ ذَكَرْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَغَيْرِهِ فَرَاجِعْهُ وَالْمَسْأَلَةُ تَحْتَمِلُ بَسْطًا طَوِيلًا لَكِنْ ضَاقَ الْمَحَلُّ عَنْ اسْتِيفَائِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ الْمَعْصِيَةِ الْكَبِيرَةِ الْقَلْبِيَّةِ إذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِهَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْوِلَايَاتِ وَالشَّهَادَاتِ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ إنَّ مَنْ ارْتَكَبَ فِسْقًا بَاطِنًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَهُوَ مُقَلِّدٌ لِلْقَائِلِ بِأَنَّهُ فِسْقٌ لَا يَجُوزُ لَهُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015