فِيمَا مَرَّ مِنْ مَنْعِ التَّقْلِيدِ فِيمَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِهِ فَقَالَ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي تَصْحِيحِ الدَّوْرِ فِي الْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ وَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي لِمُخَالَفَتِهِ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ. اهـ. وَمَا عَلَّلَ بِهِ مَمْنُوعٌ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ يَشْهَدُ لِتَصْحِيحِ الدَّوْرِ بَلْ لَيْسَ عَلَى بُطْلَانِهِ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ إلَّا مَا فِيهِ مِنْ سَدِّ بَابِ الطَّلَاقِ الْمَعْلُومِ مِنْ الظَّوَاهِرِ عَدَمُ قَبُولِهِ لِلسَّدِّ وَهَذَا وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ فِي مَنْعِ التَّقْلِيدِ.
وَجَوَازِ النَّقْضِ فَالْوَجْهُ مَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ مِنْ جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِيهِ وَإِنَّهُ لَا عِقَابَ عَلَى مَنْ قَلَّدَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْفُرُوعَ الِاجْتِهَادِيَّةَ لَا عِقَابَ فِيهَا أَيْ لِمَنْ قَلَّدَ فِيهَا لَا مُطْلَقًا خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ وَقَوْلُ ابْنِ الصَّبَّاغِ إنَّ تَصْحِيحَهُ خَطَأٌ لَيْسَ مَذْهَبًا لِلشَّافِعِيِّ لَا يَقْتَضِي مَنْعَ تَقْلِيدِهِ لِأَنَّهُ شَخْصٌ مِنْ الْأَصْحَابِ تَفَرَّدَ بِمَقَالَةٍ بِاعْتِبَارِ مَا عِنْدَهُ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يَقُولُ بِصِحَّتِهِ لَا سِيَّمَا وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ عَلَى مَا فِيهِ مِمَّا بَيَّنْته فِي كِتَابِي الْأَدِلَّةُ الْمَرْضِيَّةُ عَلَى بُطْلَانِ الدَّوْرِ فِي الْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ وَقَوْلُ السَّائِلِ نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَهَلْ يَسُوغُ لِلْمُفْتِي إلَخْ جَوَابُهُ نَعَمْ يَسُوغُ لَهُ الْإِفْتَاءُ بِمَذْهَبِهِ وَخِلَافِ مَذْهَبِهِ إذَا عَرَفَ مَا يُفْتِي بِهِ عَلَى وَجْهِهِ وَأَضَافَهُ إلَى الْإِمَامِ الْقَائِلِ بِهِ لِأَنَّ الْإِفْتَاءَ فِي الْعُصُرِ الْمُتَأَخِّرَةِ إنَّمَا سَبِيلُهُ النَّقْلُ.
وَالرِّوَايَةُ لِانْقِطَاعِ الِاجْتِهَادِ بِسَائِرِ مَرَاتِبِهِ مِنْ مُنْذُ أَزْمِنَةٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ سَبِيلَ الْمُفْتِينَ الْيَوْمَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْقُلَ الْحُكْمَ عَنْ إمَامِهِ أَوْ غَيْرِهِ بَلْ لَوْ فُرِضَ أَنَّ شَخْصًا لَهُ قُوَّةُ اجْتِهَادِ الْفَتْوَى فِي مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِ جَازَ لَهُ الْإِفْتَاءُ بِمَا تَقْتَضِيه قَوَاعِدُ الْمَذْهَبَيْنِ لَكِنْ مَعَ بَيَانِ ذَلِكَ وَنِسْبَةِ كُلِّ رَأْيٍ إلَى الْإِمَامِ الْقَائِلِ بِهِ وَهَذَا هُوَ مَلْحَظُ مَا وَقَعَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي عَلَى مَذْهَبَيْنِ كَالْعَارِفِ الْإِمَامِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ يُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَكَابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ قِيلَ كَانَ يُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -.
فَإِنْ قُلْت لِمَ لَا نَقُولُ بِتَفْصِيلِ السُّبْكِيّ فِي ذَلِكَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ لِلْمُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ إمَامٍ إذَا أَفْتَى بِكَوْنِ الشَّيْءِ وَاجِبًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ حَرَامًا عَلَى مَذْهَبِهِ حَيْثُ يَجُوزُ لَلْمُقَلِّدِ الْإِفْتَاءُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ وَيُفْتِيَ بِخِلَافِهِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَحْضُ تَشَبُّهٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ مَصْلَحَةً دِينِيَّةً فَيَعُودَ إلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَنَقُولُ بِجَوَازِهِ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ أَفْتَى وَلَدَهُ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ بِمَذْهَبِ اللَّيْثِ وَالْخَلَاصُ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ وَقَالَ إنْ عُدْت لَمْ أُفْتِك إلَّا بِقَوْلِ مَالِكٍ يَعْنِي بِالْوَفَاءِ عَلَى أَنَّا حَمَلْنَا قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ هَذَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى التَّخْيِيرَ فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا إذَا رَآهُ مَصْلَحَةً وَالْمُقَلِّدُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَرَ التَّخْيِيرَ إذَا قَصَدَ مَصْلَحَةً دِينِيَّةً وَأَمَّا بِالتَّشَهِّي فَلَا. اهـ. قُلْت كَلَامُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي غَيْرِ مَا قَرَّرْنَاهُ لِأَنَّهُ فِي مُنْتَقِلٍ إلَى مَذْهَبٍ غَيْرِ مَذْهَبِهِ لِيَعْتَقِدَهُ وَيُفْتِيَ بِهِ بِدَلِيلِ فَرْضِهِ لِكَلَامِهِ فِيمَنْ أَفْتَى بِحِلِّ شَيْءٍ مَثَلًا تَقْلِيدًا لِإِمَامٍ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ قَالَ بِحُرْمَتِهِ وَيُفْتِيَ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي.
وَأَمَّا مَا قَرَّرْنَاهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ بَلْ فِي مُلْتَزِمٍ بِالنِّسْبَةِ لِعِلْمِهِ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا ثُمَّ أَفْتَى غَيْرَهُ بِحُكْمٍ فِي مَذْهَبِ إمَامٍ آخَرَ فَلَهُ ذَلِكَ مُطْلَقًا إذْ لَا تَشَهِّيَ هُنَا بِوَجْهٍ عَلَى أَنَّ مَا قَالَهُ السُّبْكِيّ إنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى الضَّعِيفِ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْلِيدُ مَنْ اعْتَقَدَهُ أَفْضَلَ وَلَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ أَمَّا عَلَى الصَّحِيحِ وَهُوَ التَّخْيِيرُ مُطْلَقًا وَجَوَازِ الِانْتِقَالِ إلَى أَيِّ مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْمُعْتَبَرَةِ وَلَوْ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي مَا لَمْ يَتَتَبَّعْ الرُّخَصَ بَلْ وَإِنْ تَتَبَّعَهَا عَلَى مَا مَرَّ فَلَهُ وَإِنْ أَفْتَى بِحُكْمٍ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى خِلَافِهِ بِأَنْ يُقَلِّدَ الْقَائِلَ بِهِ وَيُفْتِيَ بِهِ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ تَلْفِيقُ التَّقْلِيدِ الْمُسْتَلْزِمِ بُطْلَانَ تِلْكَ الصُّورَةِ بِاجْتِمَاعِ الْمَذْهَبَيْنِ بَلْ.
وَإِنْ لَزِمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ مُحَقِّقُ الْحَنَفِيَّةِ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ وَأَطَالَ فِي الِاسْتِدْلَالِ لَهُ وَمَا نَقَلَهُ السُّبْكِيّ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا يُنَافِي مَا قُلْنَاهُ بَلْ وَلَا يَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ لِأَنَّ كَلَامَهُ فِي الْمُقَلِّدِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ حَيْثُ يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ الْإِفْتَاءُ وَابْنُ الْقَاسِمِ مُجْتَهِدٌ بِدَلِيلِ قَوْلِ السُّبْكِيّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى التَّخْيِيرَ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ لِتَعْلَمَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ نَقَلَ كَلَامَ السُّبْكِيّ هَذَا وَاعْتَمَدَهُ وَجَعَلَهُ مُقَيِّدًا لِكَلَامٍ لَهُ آخَرَ دَالٍّ عَلَى مَا قَرَّرْته.
وَهُوَ قَوْلُهُ إذَا حَكَمَ الْقَاضِي