ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ جَاءَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ حَكَمَ بَيْنَ خَصْمَيْنِ فِي طَسْتٍ ثُمَّ غَرِمَهُ لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ قَالَ الْمُزَنِيّ فَلَوْ كَانَ يَقْطَعُ بِأَنَّ الَّذِي قَضَى بِهِ هُوَ الْحَقُّ لَمَا تَأَثَّمَ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَا غَرِمَ لِلظَّالِمِ ثَمَنَ طَسْتِهِ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ ظَالِمٌ بِمَنْعِهِ إيَّاهُ مِنْ صَاحِبِهِ قَالَ وَلَكِنَّهُ عِنْدِي خَافَ أَنْ يَكُونَ قَضَى عَلَيْهِ بِمَا أُغْفِلَ عَنْهُ وَظَلَمَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ فَتَوَرَّعَ بِاسْتِحْلَالِ ذَلِكَ مِنْهُ وَغَرِمَهُ لَهُ وَكَانَ غُرْمُهُ لَهُ مَعَ اسْتِيفَائِهِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ طَلَبًا لِلثَّوَابِ فَحَسِبَ لَمَّا خَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ إعْطَاءَهُ لِمُحْتَاجٍ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِ. اهـ.

فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ مِنْ الْمُزَنِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَجِدْهُ صَرِيحًا فِيمَا فِي السُّؤَالِ عَنْ النَّسَفِيِّ وَكَانَ هَذَا الْمَذْكُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ نَحْوِهِ هُوَ مُسْتَنَدَ النَّسَفِيِّ فِيمَا ذَكَرَهُ وَإِلَّا فَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفُرُوعِ مُصِيبٌ وَمَقَالَةُ النَّسَفِيِّ الْمَذْكُورَةُ لَا تَتَأَتَّى إلَّا عَلَى مَا عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَأَصْحَابُهُ وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَغَيْرِهِمَا وَفِي ذَلِكَ وَتَحْرِيرِهِ خِلَافٌ طَوِيلُ الذَّيْلِ وَلَيْسَ هَذَا مَحَلُّ بَسْطِهِ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّ مَا قَالَهُ النَّسَفِيُّ بِعَيْنِهِ هُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَأَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ مِنْهُمْ رَجَّحَ خِلَافَهُ.

فَقَالَ أَعْلَمُ إصَابَتَنَا وَأَقْطَعُ بِخَطَإِ مَنْ خَالَفَنَا وَمَنْعِهِ مِنْ الْحُكْمِ بِاجْتِهَادِهِ غَيْرَ أَنِّي لَا أُأَثِّمُهُ. اهـ. وَبِمَا قَدَّمْته عَنْ ابْن الصَّبَّاغِ عَنْ الْأَصْحَابِ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَالْأَصْحَابِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَدْبِ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ وَعَنْ الْمُزَنِيِّ تَعْلَمُ أَنَّ الْأَصَحَّ غَيْرُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَإِنْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ إنَّهُ الْأَصَحُّ وَقَدْ يُحْمَلُ كَلَامُ الْقَاضِي عَلَى الْمَسَائِلِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا بِنَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ فَهَذِهِ نَقْطَعُ فِيهَا بِخَطَإِ الْمُخَالِفِ لِأَنَّهُ خَالَفَ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ إذْ لَا نَقُولُ ذَلِكَ أَعْنِي النَّقْضَ إلَّا فِيمَا دَلِيلُهُ قَطْعِيٌّ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ.

وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا فِي النَّقْضِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ وَمَنْشَأُ اخْتِلَافِهِمْ أَنَّ الْمُخَالِفَ هَلْ خَالَفَ دَلِيلًا قَطْعِيًّا لَا يُؤَوَّلُ أَمْ لَا وَالْأَصَحُّ فِي أَكْثَرِهِمْ أَنَّهُ لَا نَقْضَ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ لَمْ يُخَالِفْ إلَّا بِحُجَّةٍ مُتَمَاسِكَةٍ وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْحَمْلَ الَّذِي ذَكَرْتُهُ قَوْلُ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوَاعِدِهِ مَنْ صَوَّبَ الْمُجْتَهِدِينَ شَرَطَ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ مَذْهَبُ الْخَصْمِ مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ يَنْقُضُ الْحُكْمَ الْمُسْتَنِدَ إلَيْهِ قَالَ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ شُرْبُ النَّبِيذِ لِلْحَنَفِيِّ مُبَاحًا وَإِنْ بِتَصْوِيبِهِمْ. اهـ.

فَإِذَا اسْتَثْنَى الشَّيْخُ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ فَمَا بَالُك بِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ كَلَامِ الْقَاضِي قَوْلُهُ لَا يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يُفَوِّضَ الْقَضَاءَ لِحَنَفِيٍّ فِي مَسْأَلَةٍ يَعْتَقِدُ الْمُفَوِّضُ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ يُعِينُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ قَالَ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُفَوِّضَ إلَيْهِ الْحُكْمَ فِيهَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَتَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَيُوَافِقُ الشَّافِعِيَّ فَلَا يَكُونُ الْمُفَوِّضُ مُعِينًا عَلَى مَا يَعْتَقِدُ مَنْعَهُ. اهـ. وَوَجْهُ دَلَالَةِ هَذَا عَلَى أَنَّهُ ضَعِيفٌ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَصْرِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُوَلِّي الْحَنَفِيَّ وَغَيْرَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُجْتَهِدِينَ وَلَا اُحْتُمِلَ تَغَيُّرُهُمْ عَنْ مَذْهَبِهِمْ فِي مَسَائِلَ عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ لَا يَرَاهَا الْمُوَلِّي بَلْ كَثِيرًا مَا يُوَلُّونَ الْمُخَالِفَ فِي مَسْأَلَةٍ خَاصَّةٍ لِيَحْكُمَ بِهَا عَلَى مَذْهَبِهِ فَوُقُوعُ الْإِجْمَاعِ الْفِعْلِيِّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مُنْذُ مِئَاتٍ مِنْ السِّنِينَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ وَأَنَّهُ لَا إعَانَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَلْبَتَّةَ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ كَلَامِ الْقَاضِي أَيْضًا قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ مِنْ فُرُوعِ مَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ أَوْ الْكُلَّ: اقْتِدَاءُ الشَّافِعِيِّ بِالْحَنَفِيِّ وَالْأَصَحُّ فِيهِ الصِّحَّةُ إلَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ خِلَافُهُ بِمَا يَشْتَرِطُهُ أَوْ يُوجِبُهُ لِأَنَّا لَا نَقْطَعُ بِالْمُخَالَفَةِ حِينَئِذٍ فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ لَا نَقْطَعُ بِالْمُخَالَفَةِ حِينَئِذٍ مَعَ جَعْلِهِ ذَلِكَ مِنْ فُرُوعِ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ أَوْ الْكُلَّ تَجِدْهُ صَرِيحًا فِي رَدِّ كَلَامِ الْقَاضِي وَبِكَلَامِ الْإِمَامِ هَذَا يُعْرَفُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ السَّائِلِ نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ.

وَهَلْ مَنْعُهُمْ الِاقْتِدَاءَ بِالْمُخَالِفِ إلَخْ وَمَا قَدَّمْته عَنْ قَوَاعِدِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ صَرَّحَ بِهِ فِي فَتَاوِيهِ أَيْضًا لَكِنْ بِزِيَادَةٍ فَقَالَ فَإِنْ خَالَفَتْ فَتْوَى إمَامِهِ حَدِيثًا صَحِيحًا فَإِنْ خَالَفَ مُخَالَفَةً يُنْقَضُ بِهَا حُكْمُهُ أَنْ لَوْ حَكَمَ بِهِ لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُهُ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ مُخْطِئٌ وَلَيْسَ فِي الْخَطَإِ قُدْوَةٌ وَلَا فِي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015