وَيُوَجَّهُ سَمَاعُهَا وَالْحُكْمَ بِهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى حَقِّهِ مَعَ حُضُورِهِ بِأَنَّهُمَا لَمْ يَقَعَا بِطَرِيقِ الْقَصْدِ وَإِنَّمَا وَقَعَا بِطَرِيقِ التَّبَعِ وَيُغْتَفَرُ فِي الشَّيْءِ تَابِعًا مَا لَا يُغْتَفَرُ فِيهِ مَقْصُودًا وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي حِيلَةِ النَّذْرِ السَّابِقَةِ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَا صُورَتُهُ ذَكَرَ الْإِمَامُ النَّسَفِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي الْمُصَفَّى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا إذَا سُئِلْنَا عَنْ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ مُخَالِفِنَا فِي الْفُرُوعِ أَنْ نُجِيبَ بِأَنَّ مَذْهَبَنَا صَوَابٌ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَمَذْهَبَ مُخَالِفِنَا خَطَأٌ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُصِيبَ فِي الْفُرُوعِ وَاحِدٌ وَغَيْرُهُ مُخْطِئٌ مَأْجُورٌ.
فَهَلْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِمِثْلِ ذَلِكَ وَهَلْ مَنْعُهُمْ الِاقْتِدَاءَ بِالْمُخَالِفِ حَيْثُ ارْتَكَبَ مُبْطِلًا مُقْتَضٍ لِذَلِكَ وَهَلْ يَسُوغُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِمَذْهَبِ مُخَالِفِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُفْتِيَ الْحَنَفِيُّ بِعَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ مُوَلِّيهِ أَوْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ وَلَا بِالْوَجْهِ الضَّعِيفِ الْمَرْجُوحِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَيُقَالُ إنَّ بَيَانَ الْحُكْمِ لِلْمُسْتَفْتِي الْمُخَالِفِ بِنَحْوِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مِنْ الرِّوَايَةِ وَحِكَايَةِ مَذْهَبِ الْغَيْرِ لَا الْإِفْتَاءِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَى الِاعْتِقَادِ تَفَضَّلُوا بِبَيَانِ ذَلِكَ وَبَسْطِ الْكَلَامِ وَنَقْلِ مَا لَهُمْ فِيهِ تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا فَإِنَّ الْمَقَامَ قَدْ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ حَتَّى تَوَهَّمَ بَعْضُ الْمُتَفَقِّهَةِ أَنَّ الْقَوْلَ بِخَطَإِ الْمُخَالِفِ وَاعْتِقَادَ بُطْلَانِ صَلَاتِهِ مُنَافٍ لِكَوْنِهِ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بِقَوْلِهِ: نَعَمْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِمَا يُفْهِمُ ذَلِكَ لَا بِقَيْدِ الْوُجُوبِ الَّذِي ذَكَرَهُ فَفِي الْعِدَّةِ لِابْنِ الصَّبَّاغِ كَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ يَقُولَانِ إنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُصِيبٌ وَإِنَّمَا يَظُنُّ ذَلِكَ. اهـ. وَإِذَا كَانَ الْمُجْتَهِدَ لَا يَعْلَمُ الْإِصَابَةَ وَإِنَّمَا يَظُنُّهَا فَمُقَلِّدُهُ أَوْلَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّنَّ يُقَابِلُهُ الْوَهْمُ وَهُوَ احْتِمَالُ الْخَطَإِ فَنَتَجَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَظُنُّ إصَابَتَهُ وَيَجُوزُ خَطَؤُهُ وَأَنَّ مُقَلِّدَهُ كَذَلِكَ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ مَا ذُكِرَ عَنْ النَّسَفِيِّ.
وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ أَيْضًا مُرَاعَاةُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَأَصْحَابِهِ خِلَافَ الْخُصُومِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ فَذَلِكَ تَصْرِيحٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَظُنُّونَ إصَابَةَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ إمَامُهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَقْطَعُونَ بِخَطَإِ مُخَالِفِيهِ وَإِلَّا لَمْ يُرَاعُوا خِلَافَهُمْ فَلَمَّا رَاعَوْهُ عُلِمَ أَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ إصَابَتَهُ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ إمَامُهُمْ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الزَّرْكَشِيّ قَدْ رَاعَى الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَأَصْحَابُهُ خِلَافَ الْخَصْمِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ وَهَذَا إنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مُدَّعِيَ الْإِصَابَةِ لَا يَقْطَعُ بِخَطَإِ مُخَالِفِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمَّا كَانَ يُجَوِّزُ خِلَافَ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَنَظَرَ فِي مُتَمَسَّكِ خَصْمِهِ فَرَأَى لَهُ مَوْقِعًا رَاعَاهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخِلُّ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَأَكْثَرُهُ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ وَالْوَرَعِ وَهَذَا مِنْ دَقِيقِ النَّظَرِ وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَلِذَلِكَ رَاعَى مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْخِلَافَ قَالَ وَتَوَهَّمَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ يُرَاعِي صُورَةَ الْخِلَافِ وَهُوَ جَهْلٌ أَوْ عَدَمُ إنْصَافٍ وَكَيْفَ هَذَا وَهُوَ لَمْ يُرَاعِ كُلَّ خِلَافٍ وَإِنَّمَا رَاعَى خِلَافًا لِشِدَّةِ قُوَّتِهِ
فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ ابْنَ الْأَنْبَارِيِّ اسْتَشْكَلَ نَدْبَ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ بِأَنَّهُ إحْدَاثُ قَوْلٍ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَتْ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلَيْنِ التَّحْرِيمُ وَالْإِبَاحَةُ قَالَ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ التَّرْكَ مُتَعَلِّقُ الثَّوَابِ وَالْفِعْلَ جَائِزٌ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. اهـ.
قُلْتُ يُجَابُ عَنْ إشْكَالِهِ هَذَا وَإِنْ نَقَلَهُ الْأُصُولِيُّونَ وَلَمْ يُجِيبُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ مَا زَعَمَهُ أَنْ لَوْ كَانَ النَّدْبُ الَّذِي قُلْنَا بِهِ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي اُخْتُلِفَ بِسَبَبِهَا فِي إبَاحَتِهِ وَحُرْمَتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا التَّرْكُ فِيهِ لَهُ جِهَةٌ أُخْرَى خَارِجَةٌ عَنْ ذَلِكَ اقْتَضَى تَحْذِيرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الشُّبُهَاتِ وَتَأْكِيدَهُ فِي طَلَبِ مَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ أَنَّهُ أَعْنِي التَّرْكَ أَوْلَى مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى كَمَفْسَدَةٍ أَدْرَكَهَا الْقَائِلُ بِالْحُرْمَةِ أَوْ جَائِزًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى لِكَوْنِ الْقَائِلِ بِهِ لَمْ يُدْرِكْ تِلْكَ الْمَفْسَدَةَ وَلَقَدْ قَالُوا رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَا مِنْ مُبَاحٍ إلَّا وَيَتَحَقَّقُ بِهِ تَرْكُ حَرَامٍ فَيَكُونُ وَاجِبًا: إنَّ كَلَامَنَا لَيْسَ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ الَّتِي نَظَرَ إلَيْهَا ذَلِكَ الْقَائِلُ ثُمَّ أَشَارُوا إلَى أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ أَيْ لِأَنَّ مَنْ نَظَرَ لِتِلْكَ الْجِهَةِ حَكَمَ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ وَمَنْ لَمْ يَنْظُرْ إلَيْهَا حَكَمَ بِأَنَّهُ مُبَاحٌ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْكَلَامَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ النَّظَرِ إلَى الْجِهَاتِ النَّاشِئَةِ هِيَ عَنْهَا.
فَكَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ فَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهَا مَا زَعَمَهُ