فَرْضِيَّةَ مَا مَرَّ إنَّمَا يُخَاطَبُ بِهَا مَنْ جَمَعَ الشُّرُوطَ الَّتِي ذَكَرُوهَا وَإِذَا تَأَمَّلْت جَمِيعَ أَهْلِ الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ لَمْ تَجِدْهُمْ جَمَعُوا تِلْكَ الشُّرُوطَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِمْ إذْ مِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ الذَّكَاءُ وَالْمُرَادُ بِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ ذَكَاءٌ يُوَصِّلُ إلَى رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ لِمَنْ بَذَلَ جُهْدَهُ وَأَفْنَى عُمُرَهُ فِي اقْتِنَاصِ شَوَارِدِ الْعُلُومِ وَأَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ قَدْ بَذَلُوا جُهْدَهُمْ وَأَفْنَوْا عُمُرَهُمْ وَلَمْ يَظْفَرُوا بِذَلِكَ فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّصِفُوا بِالذَّكَاءِ الْمَذْكُورِ فَلَا وُجُوبَ عَلَيْهِمْ

وَكَذَا يُقَالُ فِي أَعْصَارِنَا الَّتِي خَلَتْ عَنْ الْمُجْتَهِدِ بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ حَتَّى مُجْتَهِدِ الْفَتْوَى فَلَا إثْمَ عَلَيْهِمْ فِي تَعَطُّلِ الْفَرْضِ بِالْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ السَّابِقِ فَإِنْ قُلْت مَا وَجْهُ التَّعَطُّلِ عَنْ مُجْتَهِدِ الْفَتْوَى قُلْنَا لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرَهُمَا مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةُ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ كَالْغَزَالِيِّ وَإِمَامِهِ عَلَى نِزَاعٍ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي الْفَتْوَى لَا فِي الْمَذْهَبِ وَلَا مُجْتَهِدُونَ مُنْشِئُونَ وَإِذَا كَانُوا هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ كَذَلِكَ فَأَنَّى لَك فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ أَنْ تَجِدَ مِثْلَ أَقَلِّهِمْ وَيَدُلُّ لِمَا ذَكَرْته قَوْلُ الْجَلَالِ الْمَحَلِّيِّ عَقِبَ حِكَايَتِهِ الْقَوْلَ بِجَوَازِ إفْتَاءِ الْمُقَلِّدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى التَّفْرِيعِ وَالتَّرْجِيحِ لِأَنَّهُ نَاقِلٌ لِمَا يُفْتِي بِهِ عَنْ إمَامِهِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِنَقْلِهِ عَنْهُ وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ كَابْنِ الصَّلَاحِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْمُنْتَسِبَ وَمُجْتَهِدَ الْمَذْهَبِ: الثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَبْلُغَ مَرْتَبَةَ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ لَكِنَّهُ فَقِيهُ النَّفْسِ حَافِظُ مَذْهَبِ إمَامِهِ إلَى أَنْ قَالَ وَهَذِهِ صِفَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى أَوَاخِرِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ الصِّنْفُ الَّذِينَ رَتَّبُوا الْمَذْهَبَ وَحَرَّرُوهُ وَصَنَّفُوا فِيهِ تَصَانِيفَ مِنْهَا مُعْظَمُ اشْتِغَالِ النَّاسِ الْيَوْمَ وَلَمْ يَلْحَقُوا الَّذِينَ قَبْلَهُمْ فِي التَّخْرِيجِ ثُمَّ قَالَ: الرَّابِعَةُ أَنْ يَقُومَ بِحِفْظِ الْمَذْهَبِ وَفَهْمِهِ وَلَكِنْ عِنْدَهُ ضَعْفٌ فِي تَقْرِيرِ أَدِلَّتِهِ وَتَحْرِيرِ أَقْيِسَتِهِ ثُمَّ قَالَ وَمَا لَمْ تَجِدْهُ مَنْقُولًا إنْ وُجِدَ فِي الْمَنْقُولِ مَعْنَاهُ بِحَيْثُ يُدْرَكُ بِغَيْرِ كَبِيرِ فِكْرٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا جَازَ إلْحَاقُهُ بِهِ فِي الْفَتْوَى وَكَذَا مَا يُعْلَمُ انْدِرَاجُهُ تَحْتَ ضَابِطٍ مُمَهِّدٍ فِي الْمَذْهَبِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ يَجِبُ إمْسَاكُهُ وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ نَادِرًا فِي حَقِّ الْمَذْكُورِ إذْ يَبْعُدُ كَمَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنْ تَقَعَ مَسْأَلَةٌ لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهَا فِي الْمَذْهَبِ وَلَا هِيَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ وَلَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ ضَابِطٍ فَانْظُرْ جَعْلَهُ مَنْ بَعْدَ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ لَيْسَ مِنْ مُجْتَهِدِي الْمَذْهَبِ الدَّالِّ لِمَا قَدَّمْته ثَمَّ.

كَلَامُ الْجَلَالِ الْمَحَلِّيِّ الْمَذْكُورُ يُفْهِمُ اعْتِمَادَهُ لِذَلِكَ الْقَوْلِ وَهُوَ قَرِيبٌ لِئَلَّا يَلْزَمَ عَلَيْهِ تَأْثِيمُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِإِفْتَائِهِمْ مَعَ قُصُورِهِمْ عَنْ دَرَجَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَمَّا قَوْلُهُ عَقِبَ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ وَكُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا يُشْتَرَطُ فِيهِ حِفْظُ الْمَذْهَبِ أَيْ مُعْظَمِهِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْوُقُوفِ عَلَى الْبَاقِي عَلَى قُرْبٍ كَمَا ذَكَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَفِقْهُ النَّفْسِ فَمَنْ تَصَدَّى لِلْفُتْيَا وَلَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَقَدْ بَاءَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} [المطففين: 4] {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: 5] فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا وُجِدَ هُنَاكَ مُتَّصِفٌ بِأَحَدِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ مَنْ حَفِظَ كِتَابًا أَوْ أَكْثَرَ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ قَاصِرٌ لَمْ يَتَّصِفْ بِصِفَةِ أَحَدٍ مِمَّنْ سَبَقَ وَلَمْ يَجِدْ الْعَامِّيُّ فِي بَلَدِهِ غَيْرَهُ فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِهِ فَالْجَوَابُ إنْ كَانَ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ مُفْتٍ يَجِدُ السَّبِيلَ إلَيْهِ وَجَبَ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَكَرَ مَسْأَلَتَهُ لِذَلِكَ الْقَاصِرِ فَإِنْ وَجَدَهَا بِعَيْنِهَا فِي كِتَابٍ مَوْثُوقٍ بِصِحَّتِهِ وَهُوَ مِمَّنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ نَقَلَ لَهُ حُكْمَهَا بِنَصِّهَا وَكَانَ الْعَامِّيُّ فِيهَا مُقَلِّدًا صَاحِبَ الْمَذْهَبِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَهَذَا وَجَدْته فِي ضِمْنِ كَلَامِ بَعْضِهِمْ وَالدَّلِيلُ يُعَضِّدُهُ. اهـ.

قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَقِبِ ذَلِكَ ثُمَّ لَا يُعَدُّ هَذَا الْقَاصِرُ بِأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْمُفْتِينَ وَلَا مِنْ الْأَصْنَافِ الْمُسْتَعَارِ لَهُمْ سِمَةُ الْمُفْتِينَ وَأَمَّا مَا قَطَعَ بِهِ الْحَلِيمِيُّ وَالْجُوَيْنِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ تَحْرِيمِ إفْتَاءِ الْمُقَلِّدِ بِمَا هُوَ مُقَلِّدٌ فِيهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى مَا إذَا ذَكَرَهُ بِصُورَةِ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ فَعَلَى هَذَا مَنْ عَهِدْنَاهُ مِنْ الْمُفْتِينَ الْمُقَلِّدِينَ لَيْسُوا مُفْتِينَ حَقِيقَةً لَكِنْ لَمَّا قَامُوا مَقَامَهُمْ وَأَدَّوْا عَنْهُمْ عُدُّوا مَعَهُمْ وَسَبِيلُهُمْ أَنْ يَقُولُوا مَثَلًا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَذَا وَنَحْوَ هَذَا وَمَنْ تَرَكَ الْإِضَافَةَ فَقَدْ اكْتَفَى بِالْمَعْلُومِ مِنْ الْحَالِ عَنْ التَّصْرِيحِ بِهِ. اهـ.

(وَسُئِلَ)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015