(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ بِقَوْلِهِ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ أَخْذًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَمَحَلُّهُ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَعْلَمُ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ عَنْ الْأَعْلَمِ وَرَجَّحَهُ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ بِقَوْلِهِ الْمُخْتَارِ إذْ هُوَ فِيهَا بِمَعْنَى الرَّاجِحِ بَعْدَ أَنْ نَظَرَ فِيهِ وَنَقَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ أَيْ كَابْنِ الصَّلَاحِ ثُمَّ.
قَالَ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ أَوْرَعِ الْعَالِمِينَ وَأَعْلَمِ الْوَرِعِينَ وَإِنْ تَعَارَضَا قَدَّمَ الْأَعْلَمَ عَلَى الْأَصَحِّ. اهـ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَوْ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ اجْتِهَادُ مُجْتَهِدَيْنِ فِي الْقِبْلَةِ تَخَيَّرَ وَإِنْ اعْتَقَدَ أَحَدَهُمَا أَفْضَلَ وَبِأَنَّ كَلَامَ الْمَجْمُوعِ فِي مُقَدِّمَتِهِ وَأَصْلِ الرَّوْضَةِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ مُفْتِيَانِ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ مُطْلَقًا وَبِأَنَّ قِيَاسَ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ أَرْجَحِ الدَّلِيلَيْنِ وَأَوْثَقِ الرِّوَايَتَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ.
لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ هُوَ الْمُجْتَهِدُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ الْأَعْلَمِ وَبِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا عِبْرَةَ بِاعْتِقَادِهِ إذْ قَدْ يَعْتَقِدُ الْمَفْضُولَ فَاضِلًا إذْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ وَبِأَنَّ الْكَمَالَ الْمُحَقِّقَ ابْنَ الْهُمَامِ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ وَيُجَابُ بِأَنَّ أَمَارَةَ الْقِبْلَةِ ظَاهِرَةٌ يَسْتَوِي فِي مَعْرِفَتِهَا الْأَفْضَلُ وَغَيْرُهُ وَلَوْ سَلَّمْنَا عَدَمَ اسْتِوَائِهِمَا فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِيهَا غَيْرُ كَبِيرٍ بِخِلَافِ الْأَحْكَامِ فَإِنَّ التَّفَاوُتَ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ قَدْ كَثُرَ وَانْتَشَرَ وَالْأَعْلَمُ أَدْرَى بِهَا فَوَجَبَ تَقْلِيدُهُ وَبِأَنَّ اقْتِضَاءَ مَا ذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ الْمُفْتِيَيْنِ إمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ صَحِيحٌ وَيُفَرَّقُ بِأَنَّ الِابْتِدَاءَ يُحْتَاطُ لَهُ أَكْثَرَ لِأَنَّ فِيهِ الْتِزَامَ الْأَخْذِ بِقَوْلِهِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ مُفْتِيَانِ فَإِنَّهُ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فَوُسِّعَ فِيهِ أَكْثَرَ أَوْ يُقَالُ وَهُوَ الْأَقْرَبُ هُوَ مُقَيَّدٌ بِذَلِكَ أَيْضًا وَأَهْمَلُوهُ فِيهَا لِعِلْمِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَبِأَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا فَسَادَ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ فَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي ضَعْفَ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ صَحِيحٌ إذْ صُورَتُهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ اعْتَقَدَ الْأَرْجَحِيَّةَ وَالْمُقَلِّدَ كَذَلِكَ فَتَسَاوَيَا حِينَئِذٍ وَلَا نَظَرَ إلَى أَنَّ ذَاكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ دُونَ هَذَا إذْ لَا يَصِحُّ فَارِقًا وَبِأَنَّ دَعْوَى عَدَمِ الِاعْتِبَارِ بِاعْتِقَادِ الْعَامِّيِّ فِي مَحَلِّ الْمَنْعِ بَلْ هُوَ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَا صُورَتُهُ قَالَ الشَّيْخَانِ النَّاسُ كَالْمُجْمِعِينَ الْيَوْمَ عَلَى أَنَّهُ لَا مُجْتَهِدَ الْيَوْمَ هَلْ لَهُمَا مُسْتَنَدٌ فِي ذَلِكَ مَعَ مَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ تَعَطُّلِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَتَأْثِيمِ النَّاسِ وَالْمُفْتِينَ غَيْرُ الْمُجْتَهِدِينَ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ سَبَقَهُمَا إلَى ذَلِكَ الْفَخْرُ الرَّازِيّ وَغَيْرُهُ بَلْ قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ مِنَّا لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ عَصْرِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مُجْتَهِدٌ مُسْتَقِلٌّ أَيْ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ فَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ كَثِيرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا اتَّبَعْنَا الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّا وَجَدْنَا قَوْلَهُ أَرْجَحَ لَا أَنَّا قَلَّدْنَاهُ أَيْ فِي كُلِّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَلْ وَافَقَ اجْتِهَادُنَا اجْتِهَادَهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ وَمِنْ.
ثَمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَابْنِ الصَّلَاحِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَدَعْوَى انْتِفَاءِ التَّقْلِيدِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا لَا يَسْتَقِيمُ وَلَا يُلَائِمُ الْمَعْلُومَ مِنْ حَالِهِمْ أَوْ حَالِ أَكْثَرِهِمْ لَكِنْ نَازَعَهُمْ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَاخْتَارَ قَوْلَ الْحَنَابِلَةِ لَا يَخْلُو الْعَصْرُ عَنْ مُجْتَهِدٍ وَمَالَ إلَيْهِ فِي الْخَادِمِ قَالَ وَالِدُ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَعِزَّةُ الْمُجْتَهِدِ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ لَيْسَ لِتَعَذُّرِ حُصُولِ آلَةِ الِاجْتِهَادِ بَلْ لِإِعْرَاضِ النَّاسِ عَنْ الطَّرِيقِ الْمُفْضِيَةِ إلَيْهِ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ هَذَا تَأْثِيمُ كُلِّ النَّاسِ مِنْ عَصْرِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلَى الْآنَ لِأَنَّ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ عَصْرٍ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ كَابْنِ الصَّلَاحِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْ دَهْرٍ طَوِيلٍ يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ عُدِمَ الْمُجْتَهِدُ الْمُسْتَقِلُّ وَلِقَوْلِهِمْ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لَا يَتَأَتَّى بِأَصْحَابِ الْوُجُوهِ لَكِنْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَيَظْهَرُ تَأَدِّي الْفَرْضِ بِهِ فِي الْفَتْوَى وَإِنْ لَمْ يَتَأَدَّ فِي إحْيَاءِ الْعُلُومِ الَّتِي مِنْهَا اسْتِمْدَادُ الْفَتْوَى لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُسْتَقِلِّ وَعَلَى تَسْلِيمِ مَا ذَكَرَهُ فَقَدْ تَعَطَّلَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ فَاَلَّذِي يَجِبُ الْجَزْمُ بِهِ أَنَّ عِزَّةَ الْمُجْتَهِدِ إنَّمَا هُوَ لِتَعَذُّرِ حُصُولِ آلَةِ الِاجْتِهَادِ لَا لِلْإِعْرَاضِ عَنْ طَرِيقِهِ لِأَنَّ أَصْحَابَنَا وَغَيْرَهُمْ بَذَلُوا جُهْدَهُمْ فَوْقَ مَا يُطْلَقُ كَمَا يُعْلَمُ لِمَنْ تَأَمَّلَ أَخْبَارَهُمْ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَظْفَرُوا بِرُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ كَمَا مَرَّ وَأَيْضًا فَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ