إِن أردْت أَن يظْهر لَك الْحق وَأَنَّك تتحلى بِالصّدقِ بمطالعة إحْيَاء الْغَزالِيّ رَحمَه الله تَعَالَى، ورسالة الإِمَام الْعَارِف الْقشيرِي، وعوارف المعارف للسهروردي، والقوت لأبي طَالب الْمَكِّيّ، فَإِن هَذِه هِيَ الْكتب النافعة المبينة لأحوال الصَّادِقين، وتلبيسات المبطلين، والحاملة على معالي الْأَخْلَاق وإيثار الْفقر والإملاق وإدمان الطَّاعَات، وملازمة الْعِبَادَات سِيمَا الْجَمَاعَات، والإعراض عَن سفاسف أَقوام غلب عَلَيْهِم الشَّيْطَان فسوّل لَهُم الْقَبِيح حسنا، والمنْكَّر مَعْرُوفا، والمذموم ممدوحاً، فاستغرقوا فِي بحار شهواتهم، وقبيح اعتقاداتهم وإراداتهم، وهم مَعَ ذَلِك يحسبون أَنهم يحسنون صنعا أَو يُحْكِمون وضعا، وفقنا الله لمعْرِفَة عُيُوب أَنْفُسنَا وأجارنا من شهواتنا وأدام علينا رِضَاهُ مَعَ السَّلامَة من كل فِتْنة ومِحْنة فِي هَذِه الدَّار وَإِلَى أَن نَلْقَاهُ، إِنَّه الْجواد الْكَرِيم الرؤوف الرَّحِيم. 45 وَسُئِلَ نفع الله بِعُلُومِهِ سؤالاً صورته: السّمع وَالْبَصَر مَا الْأَفْضَل مِنْهُمَا؟ فَأجَاب بقوله: الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْفُقَهَاء أَن حاسة السّمع أفضل من حاسة الْبَصَر، لِأَنَّهُ تَعَالَى قرن بذهاب السّمع ذهَاب الْعقل فِي قَوْله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} [يُونُس: 42] وَلَا كَذَلِك فِي الْبَصَر وَلِأَن استفادة الْعقل من السّمع أَكثر من استفادته من الْبَصَر، كَمَا جزم بِهِ القَاضِي فِي (تَفْسِيره) ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قدمه فِي غَالب الْآيَات القرآنية على الْبَصَر والتقديم دَلِيل الْأَفْضَلِيَّة كَمَا صَرَّحُوا بِهِ إِلَّا أَن يدل دَلِيل على خِلَافه، وَلم يقم هُنَا دَلِيل على خِلَافه، فَكَانَ تَقْدِيم السّمع مقتضياً لأفضليته، وَلِأَن الْعَمى وَقع فِي حق بعض الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام أَي على قَول، وَلم يَقع فيهم أَصمّ إِجْمَاعًا فاستحالة الصمم عَلَيْهِم لإخلاله بأَدَاء الرسَالَة، لِأَنَّهُ إِذا لم يسمع كَلَام السَّائِل تعذر عَلَيْهِ جَوَابه فيعجز عَن تَبْلِيغ الشَّرِيعَة، وَلِأَن الْقُوَّة السامعة تدْرك المسموعات من جَمِيع الْجِهَات الستْ فِي النُّور والظلمة، والقوةُ الباصرة لَا تدْرك المرئي إِلَّا من جِهَة الْمُقَابلَة بِوَاسِطَة شُعَاع، أَو ضِيَاء، وَمَا عمَّ نفعهُ زَاد فَضله، وَلِأَنَّهُ السَّبَب فِي استفادة الْعُلُوم دون الْبَصَر، لِأَنَّهُ تَعَالَى قرنه بِالْعقلِ المُرَاد بِالْقَلْبِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَىالِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] وَالْعقل أشرف مَا فِي الْإِنْسَان فَكَذَا مَا قُرن بِهِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى جعله سَببا فِي الْخَلَاص من عَذَاب السعير حِكَايَة عَن أَهلهَا بقوله عَنْهُم: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الْملك: 10] وَمَا كَانَ سَببا فِي الْخَلَاص من ذَلِك أولى من الْبَصَر الَّذِي لَا سَبَبِيَّة لَهُ فِي ذَلِك وَلِأَن ذَلِك الْمَعْنى الَّذِي امتاز بِهِ الْإِنْسَان عَن شَأْن الْحَيَوَانَات، هُوَ النُّطْق وَإِنَّمَا يُدْرِكهُ السّمع، فمتعلق السّمع النُّطْق الَّذِي يشرف بِهِ الْإِنْسَان، ومتعلق الإبصار إِدْرَاك الألوان والأشكال، وَذَلِكَ أَمر يشْتَرك فِيهِ النَّاس وَسَائِر الْحَيَوَانَات، فَوَجَبَ أَن يكون السّمع أفضل من الْبَصَر، لِأَن سَائِر الْأَنْبِيَاء صلوَات الله وَسَلَامه على نَبينَا وَعَلَيْهِم أَجْمَعِينَ لم تعرف نبوّتهم ورسالاتهم بِرُؤْيَة ذواتهم وَإِنَّمَا حصل ذَلِك بِسَمَاع أَقْوَالهم الْمُشْتَملَة على مَا أوُتوه وأُرسلوا بِهِ من التكليفات، فَوَجَبَ أَن يكون المسموع أفضل من المرئي، وحينئذٍ فَيلْزم أَفضَلِيَّة السّمع على الْبَصَر. وَقَالَ قوم: الْبَصَر أفضل من السّمع، لقَولهم فِي الْمثل: لَيْسَ بعد العَيَّان بَيَان، فَدلَّ على أَن أكمل وُجُوه الْإِدْرَاك الْبَصَر، وَلِأَن آلَة الْقُوَّة الباصرة النُّور، وَآلَة الْقُوَّة السامعة هِيَ الْهَوَاء، والنورُ أشرف من الْهَوَاء؛ فالقوة الباصرة أفضل من الْقُوَّة السامعة، لِأَن عجائب حكمته تَعَالَى فِي خلق الْعين الْمُشْتَملَة على سبع طَبَقَات وَثَلَاث رطوبات، وعَلى عضلات كَثِيرَة على صور مُخْتَلفَة، أَكثر من عجائب خلقته فِي الْأذن، وَكَثْرَة الْعِنَايَة فِي تخليق الشَّيْء يدل على كَونه أفضل من غَيره، وَلِأَن الْبَصَر يرى الْكَوَاكِب فَوق سبع سموات، والسمع لَا يدْرك مَا بَعُدُ عَنهُ على فَرسَخ؛ وَلِأَن كَلَام الله يُسمع فِي الدُّنْيَا وَلم يره أحد فِيهَا، وَلِأَن ذهَاب الْبَصَر يَذْهبُ بِمَاء الْوَجْه، وَلَا كَذَلِك ذهَاب السّمع هَذَا حَاصِل أَدِلَّة الْفَرِيقَيْنِ، وَهِي وإنْ كَانَ أَكْثَرهَا لَا يَخْلُو عَن مقَال لَكِن أَدِلَّة القَوْل الأول أقوى، فَإِن حاصلها يرجع إِلَى أَن فِي السّمع من الْمَنَافِع الدِّينِيَّة مَا لَيْسَ فِي الْبَصَر، وَلَيْسَ ملخص التَّفْضِيل إِلَّا ذَلِك، بِخِلَاف أَدِلَّة القَوْل الثَّانِي فَإِنَّهَا لم يتَحَصَّل مِنْهَا أَمر ديني انْفَرد بِهِ الْبَصَر، فَكيف يُقَال بأفضليته على أَن إِدْرَاك كَلَام الله تَعَالَى بِالسَّمْعِ فِي الدُّنْيَا دون رُؤْيَته بالبصر فِيهَا أدلُّ دَلِيل على أَفضَلِيَّة السّمع لكَونه تأهل فِي الدُّنْيَا لهَذِهِ الخصوصية الْعُظْمَى وَلم يتأهل لَهَا الْبَصَر، فَكَانَ الْأَصَح هُوَ القَوْل الأول سِيمَا وَقد علمتَ أَن عَلَيْهِ أَكثر الْفُقَهَاء وَلَيْسَ الْمرجع فِي التَّفْضِيل وَنَحْوه إِلَّا إِلَيْهِم. وَأما نقل الثَّانِي عَن أَكثر الْمُتَكَلِّمين فَهُوَ وإنْ سَلِم لَا يَقْتَضِي أَنه الْأَصَح لتقدم