أَحْمد وَمُسلم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يقْعد قوم يذكرُونَ الله إِلَّا حفتهم الْمَلَائِكَة وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَة وَنزلت عَلَيْهِم السكينَة وَذكرهمْ الله فِيمَن عِنْده) . وَإِذا ثَبت أنَّ لِما يعتاده الصُّوفِيَّة من اجْتِمَاعهم على الْأَذْكَار والأوراد بعد الصُّبْح وَغَيره، أصلا صَحِيحا من السّنة وَهُوَ مَا ذَكرْنَاهُ فَلَا اعْتِرَاض عَلَيْهِم فِي ذَلِك. ثمَّ إنْ كَانَ هُنَاكَ من يتَأَذَّى بجهرهم كمصلٍّ أَو نائمٍ نُدبَ لَهُم الْإِسْرَار، وَإِلَّا رجعُوا لما يَأْمُرهُم بِهِ أستاذهم الْجَامِع بَين الشَّرِيعَة والحقيقة، لما مر أَنه كالطبيب فَلَا يَأْمر إِلَّا بِمَا يرى فِيهِ شِفَاء لعِلَّة الْمَرِيض، وَلذَلِك تَجِد بَعضهم يخْتَار الجَهْرَ لدفع الوساوس الرَّديئَة، والكيفيات النفسانية وإيقاظ الْقُلُوب الغافلة وَإِظْهَار الْأَعْمَال الْكَامِلَة، وَبَعْضهمْ يخْتَار الْإِسْرَار بمجاهدة النَّفس وَتَعْلِيمهَا طرق الْإِخْلَاص وإيثارها الخمول. وَقد ورد أَن عمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ يجْهر وَأَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ كَانَ يسر فَسَأَلَهُمَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأجَاب كل بِنَحْوِ مَا ذكرته فأقرهما. وَالْأَخْذ عَن مَشَايِخ متعددين يخْتَلف الْحَال فِيهِ بَين من يُرِيد التَّبَرُّك وَبَين من يُرِيد التربية والسلوك، فَالْأول يَأْخُذ عَمَّن شَاءَ إِذْ لَا حجر عَلَيْهِ، وَأما الثَّانِي فَيتَعَيَّن عَلَيْهِ على مُصْطلَّح الْقَوْم السالمين من الْمَحْظُور واللوم حشرنا الله فِي زمرتهم، أنْ لَا يبتدىء إِلَّا بِمن جذبه إِلَيْهِ حَاله قهرا عَلَيْهِ، بِحَيْثُ اضمحلتْ نفسهُ لباهر حَال ذَلِك الشَّيْخ المحق، وتخلت لَهُ عَن شهواتها وإرادتها، فحينئذٍ يتَعَيَّن عَلَيْهِ الاستمساك بهديه وَالدُّخُول تَحت جَمِيع أوامره ونواهيه ورسومه حَتَّى يصير كالميِّت بَين يَدي الْغَاسِل، يقلبه كَيفَ شَاءَ، فَإِن لم يجذبه حَال الشَّيْخ كَذَلِك فليتحَّرَّ أورع الْمَشَايِخ وأعرفهم بقوانين الشَّرِيعَة والحقيقة، وَيدخل تَحت إِشَارَته ورسومه كَذَلِك، ومَنْ ظفِر بشيخ بِالْوَصْفِ الأول أَو الثَّانِي فَحَرَام عَلَيْهِ عِنْدهم أَن يتْركهُ وينتقل إِلَى غَيره، وَإِن سوّلت لَهُ نَفسه أَن غَيره أكْملُ فَإِنَّهُ قد يَضْجَر من حق ذَلِك الشَّيْخ فتريد النَّفس أَن تنقل صَاحبهَا إِلَى بَاطِل غَيره، وَإِنَّمَا مَحل اخْتِيَار الأعرفِ الأَعْلمِ الأَوْرَعِ الأَصْلحِ فِي الِابْتِدَاء. وَأما بعد الدُّخُول تَحت حيطة عَارِف أهلٌ، فَلَا رخصَة عَن الْخُرُوج عَنهُ بل وَلَا رخصَة عِنْدهم للشَّيْخ الثَّانِي. إِذا علم أنَّ لمريدِ الأخْذِ عَنهُ أستاذاً كَامِلا أَن يُسلِّكَه بل يأمُرْه بِالرُّجُوعِ لأستاذه، ويعلمه أَن ذَلِك الْأُسْتَاذ لَوْلَا أَنه على حق مَا نفرت النَّفس عَنهُ، وَلما أحبَّتْ فِرَاقه إِلَى غَيره، فَهَذَا أدَلُّ دَلِيل على كَمَاله وَحَقِيقَة طَرِيقَته. وَكثير من النُّفُوس الَّتِي يُرَاد لَهَا عدم التَّوْفِيق، إِذا رأتْ مِنْ أستاذٍ شدّة فِي التربية تنفر عَنهُ، وترميه بالقبائح والنقائص مِمَّا هُوَ عَنهُ بَرِيء، فليحْذر الْمُوفق من ذَلِك لِأَن النَّفس لَا تُرِيدُ إِلَّا هَلَاك صَاحبهَا، فَلَا يُطِعْهَا فِي الْإِعْرَاض عَن شَيْخه، وَإِن رَآهُ على أدنى حَال حَيْثُ أمكنه أَن يُخرِّج أَفعاله عَن تَأْوِيل صَحِيح ومقصد مَقْبُول شرعا، وَمن فتح بَاب التَّأْوِيل للمشايخ وأغضى عَن أَحْوَالهم، ووكل أُمُورهم إِلَى الله واعتنى بِحَال نَفسه وجاهدها بِحَسب طاقته، فَإِنَّهُ يُرْجَى لَهُ الْوُصُول إِلَى مقاصده وَالظفر بمراده فِي أسْرع زمن، ومنْ فتح بَاب الِاعْتِرَاض على الْمَشَايِخ وَالنَّظَر فِي أَحْوَالهم وأفعالهم والبحث عَنْهَا فَإِن ذَلِك عَلامَة حرمانه وَسُوء عاقبته، وَأَنه لَا ينجح قطّ، وَمن ثمَّ قَالُوا: من قَالَ لشيخه لم؟ لم يفلح أبدا: أَي لشيخه فِي السلوك والتربية لما تقرر أَن شَأْن السالك أَن يكون بَين يَدي الشَّيْخ كالميت بَين يَدي الْغَاسِل حَتَّى لَو كَانَت لَهُ عُلُوم أَو رسوم أوأعمالِ، فليُعْرض عَنْهَا وَلَا يلتفتْ إِلَيْهَا، فإنَّ نَار حَقِّ الْأُسْتَاذ الْعَارِف تُطهِّر الخبثَ وتزيله، وَيبقى الطّيب وتُبيِّن صفاءَ جوهره ونفاسة جنسه، وَالْمرَاد بالإرادة والتحكيم وَنَحْوهمَا أَن من أَرَادَ السلوك إِلَى الله على يَد بعض الواصلين وَيسر الله لَهُ مَنْ هُوَ كَذَلِك أَن يُلزم نَفسه طَاعَته وَالدُّخُول تَحت أوامره ونواهيه. ثمَّ الْكَيْفِيَّة المحصلة لهَذَا الارتباط تخْتَلف الْمَشَايِخ فِيهَا؟ فَمنهمْ من يَأْمر بِالذكر، وَمِنْهُم من يَلْبس الحرقة، وَمِنْهُم من يفعل غير ذَلِك، بِحَسب طرقهم فَإِنَّهَا كَثِيرَة جدا، حَتَّى قيل: الطّرق إِلَى الله بِعَدَد أنفاس الْخَلَائق، وليتعين على الْمُوفق أَيْضا أَن لَا يدْخل تَحت حيطة أحد إِلَّا بعد أَن يُقْهِره حَاله أَو يَعْلَم مِنْهُ الْإِحَاطَة بعلمي الشَّرِيعَة والحقيقة، لما أَن الْكَاذِبين والمتلبسين قد كَثُرُوا، وَادعوا هَذِه الطَّرِيقَة وهم مِنْهَا بريئون وَإِلَى النَّار صائرون لسوء أفعالهم، وَفَسَاد أَحْوَالهم وأقوالهم، وتكالبهم على الدُّنْيَا الفانية وإعراضهم عَن الْآخِرَة الْبَاقِيَة، إذْ لَيْسَ قصدهم بادعاء هَذِه الطَّرِيقَة الْعلية إِلَّا جمع الحُطَام، ونيل لَذَّة أكل الْحَرَام، واستفراغ الْعُمر فِي الجهالات والآنام، فحذار حذارِ من أمثالهم والاغترار بأقوالهم وأفعالهم، فَإِن كل من اتبَّعهم زل قدمه، وطغى قلمه وَحقّ ندمه، وحُرِم الوصولَ إِلَى شَيْء من الْكَمَال ويأتيه من الله أعظم الْبَوَار والنكال. وَعَلَيْك

طور بواسطة نورين ميديا © 2015