الْكَرِيم كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: (مَا بطر أحدٌ النِّعْمَة فعادتْ إِلَيْهِ) وَإِنَّمَا أمرنَا بالتفكر فِي كلّ الْمَخْلُوقَات ومُنِعْنا عَن التفكر فِي ذَات الْحق، لِأَن التفكر فِي غَيرهَا تزيد بِهِ المعارف وتتوالى بِسَبَبِهِ الْمَوَاهِب والعوارف، وينصقل بِهِ الْقلب عَن السوى، ويتخلى عَن كل هوى، وَيرجع إِلَى الله فِي سَائِر إِرَادَته وحركاته وسكناته، لِأَن من أخْدق بِعَين بصيرته واستغرق جهده، وفكرته فِي الْعَالم عُلوِّيه وسُفْلِيِّه انْكَشَفَ لَهُ الغطاء، وَزَالَ عَنهُ العماء، وَقد بَين تَعَالَى أَنه لَا يصلح للتفكر فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا أولو الْعقل الْكَامِل، واللب الْفَاضِل، كَمَا يدل عَلَيْهِ آيتا الْبَقَرَة وَآل عمرَان {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأٌّرْضِ} [الْبَقَرَة: 164] الْآيَة، وَذكر فِي الأولى المختتمة ب {يَعْقِلُونَ} [الْبَقَرَة: 164] من الْآيَات الأرضية والسماوية أَكثر مِمَّا ذكر فِي الثَّانِيَة المختتمة ب {الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ} [الْبَقَرَة: 179] مَعَ أَن اللب أشرف من الْعقل، لِأَن الأولى تناسب مقَام السالكين، لاحتياجهم للنَّظَر فِي الْآيَات الْكَثِيرَة ليحصل لَهُم ذَلِك مَعَ الإدمان وتغاير الدلالات والآيات مَعَ كثرتها وعجائبها ملكةُ المراقبة ثمَّ الشُّهُود العلمي، حَتَّى لَا تقدر عَلَيْهِم الأغيار، وَلَا يتشككون فِيمَا مُنِحوه بِسَبَب ذَلِك إِلَى أَن يرتقوا إِلَى مقَام الأخيار. وَأما الثَّانِيَة فَإِنَّهَا إِنَّمَا تناسب مقَام العارفين لأَنهم إِنَّمَا ارْتَقَوْا عَن شُهُود الْأَسْبَاب والوسائط إِلَى شُهُود مُوجِدها وباريها فَلَيْسَ لَهُم كَبِير تعلق بهَا، فَلِذَا اختصر الْأَدِلَّة فِي حَقهم لأَنهم مشغولون بذلك للشُّهُود الأقدس، وَالْجمع الأكْمل عَن النّظر فِي الْبَرَاهِين لاستغنائهم عَنْهَا بالوصول إِلَى عين الْيَقِين، فَنَاسَبَ أَن يشار لَهُم بِذكر الدَّلَائِل مُجْملة لَا مُفصَّلة إِشَارَة إِلَى أَنهم إِنَّمَا وصلوا إِلَى الله من طريقها وَمن وصل من طَرِيق لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن ينساه وَإِن اسْتغنى عَنهُ، وَمن ثمَّ رُؤِيَ مَعَ الْجُنَيْد سُبْحة فَقيل لَهُ: تحْتَاج إِلَيْهَا يَا إِمَام؟ فَقَالَ طَرِيق وصلنا إِلَى الله بِسَبَبِهَا لَا نتركها. فَالْحَاصِل أَن آيَة الْبَقَرَة لما ختمت ب {يَعْقِلُونَ} [الْبَقَرَة: 146] الَّذِي هُوَ أدنى المقامين كَانَت بالسالكين أَنْسب فَنَاسَبَ ذكر الدَّلَائِل الْكَثِيرَة فِيهَا لِأَنَّهَا الْمُنَاسبَة لحالهم كَمَا تقرر، وَأَن آيَة آل عمرَان لما ختمت ب {الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ} [الْبَقَرَة: 197] الَّذِي هُوَ الْأَعْلَى والأكمل ناسب أَن يذكر فِيهَا مَا يَلِيق بالكُمْل وَهُوَ مُلَاحظَة الدَّلَائِل إِجْمَالا، لَا تَفْصِيلًا، لاشتغالهم عَنهُ بِمَا هُوَ أهم، وَأولى وأكملْ، فَتَأمل ذَلِك لتعلم فَائِدَة التفكر، ويتضحُ لَك أَنه فِي سَاعَة أفضل من عبَادَة سِتِّينَ سنة: أَي لَيْسَ فِيهَا تفكر، نَظِير قَوْله تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [الْقدر: 3] لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر} أَي لَيْسَ فِيهَا لَيْلَة الْقدر كَمَا قَالَه الْأَئِمَّة؛ وَمعنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تفكر سَاعَة خير من عبَادَة سِتِّينَ سنة) أَي لَيْسَ فِيهَا تفكر. وسر فَضله عَن بَقِيَّة الْعِبَادَات أَنه يُؤَدِّي إِلَى التحلي بالمراتب الْعلية وانكشاف الْحَقَائِق الوهبية، وَأما غَيره من الْعِبَادَات الخالية عَنهُ فَإِنَّهُ لَا يَنْتَهِي إِلَى هَذِه الْفَوَائِد الْكَامِلَة والمعارف الفاضلة، وَلَا شكّ أَن كل مَا أدّى إِلَى قُوَّة الْإِيمَان وَزِيَادَة الإيقان وصقالة الْقلب وخُلوِّه عَن الأغيار خيرٌ مِمَّا لم يؤد لذَلِك وإنْ قلَّ زَمَنه وَطَالَ زمن غَيره، إذْ روح الْعِبَادَة الْمَقْصُودَة لأَجلهَا إِنَّمَا هُوَ معرفَة الْحق وأسراره فِي خلقه، وتجليِّه عَلَيْهِم بمعالي أَسْمَائِهِ وَصِفَاته، والتفكُّرُ هُوَ المحصل لذَلِك دون غَيره، لَكِن لَا من كل أحد بل مِمَّن تأهل لَهُ بِأَن كَانَ عِنْده من الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة الاعتقادية والعملية مَا يمنعهُ عَن أَن تزل قدمه، أَو يطغى فهمه فيحق عَلَيْهِ بذلك نَدَمُه، وَهَذَا هُوَ سر: نهينَا عَن أَن نتفكر فِي ذَاته تَعَالَى، فَإِن ذَلِك يجر إِلَى الحَيْرة والضلال عَن أَسبَاب الْكَمَال، لِأَن الذَّات العلى جَلَّ أَن يُدركه وَهْم أَو يتصوّره فِكْر، أَو يحوم حول حماه لُبْ أَو عقل، وَإِن زَاد كَمَاله لمنع الْخلق جَمِيعًا عَن ذَلِك الْحمى الأقدس وَالْمطلب الْأَنْفس {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الْبَقَرَة: 229] . وأوراد الصُّوفِيَّة الَّتِي يقرؤونها بعد الصَّلَوَات على حسب عاداتهم فِي سلوكهم لَهَا أصل أصيل. فقد روى الْبَيْهَقِيّ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لِأَن أذكر الله تَعَالَى مَعَ قوم بعد صَلَاة الْفجْر إِلَى طُلُوع الشَّمْس أحبُّ إليّ من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلِأَن أذكر الله تَعَالَى مَعَ قوم بعد صَلَاة الْعَصْر إِلَى أَن تغيب الشَّمْس أحبُّ إليّ من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) . وروى أَبُو دَاوُد عَنهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لأنْ أقعد مَعَ قوم يذكرُونَ الله تَعَالَى من صَلَاة الْعَصْر إِلَى أَن تغرب الشَّمْس أحبُّ إليّ من أَن أعتق أَرْبَعَة من ولد إِسْمَاعِيل، وَلِأَن أقعد مَعَ قوم يذكرُونَ الله تَعَالَى من صَلَاة الْغَدَاة حَتَّى تطلع الشَّمْس أحبُّ إليّ من أَن أعتق أَرْبَعَة) . وروى أَبُو نعيم إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مجَالِس الذّكر تَنْزل عَلَيْهِم السكينَة وتَحفُّ بهم الْمَلَائِكَة وتغشاهم الرَّحْمَة وَيذكرهُمْ الله) وروى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015