فجاءَ من بعدهِ رأسُ الضَّلالة الجَهْم بن صَفْوانَ، فزادَ على سلفه إضلالًا للعبادِ، وأدخَلَ عليهم من الشُّبَه ما عمَّ به الفَسادُ، فقرَّت به عينُ إبليسَ اللَّعين وتحقّقَتْ له البُغْيَةُ والمُرادُ.
قاتلَ الله جَهْمًا، كم جرَّ على هذه الأمَّةِ من الكُفْر والضَّلال؟ فنفى عن الله صفاتِ كمالهِ، فشبَّههُ بالعدَم، بل هو في الحقيقةِ عنده وعند أوليائِه عَدَمٌ مَحْضٌ، لا يتَّصف بصفَةٍ، ومن المُحال إثباتُ ذاتٍ مُجرّدةٍ عن الصَّفاتِ، فكذَّبَ جَهْمُ الرَّسولَ والقرآنَ، وجاءَ بما تقشعرُّ من ذكرهِ أبدانُ أهلِ الايمانِ، وحسْبُكَ قولُ الإِمام الحُجَّةِ عبد الله بن المبارك: "إنَّا لنَحْكي كلامَ اليهودِ والنَّصارى، ولا نستطيعُ أنْ نحكيَ كلامَ الجَهْمية" (?).
فتذكَّرْ ما وَصَفَتْ به اليهودُ والنَّصارى ربَّهم تعالى من النَّقائِصِ، وما نَفَتْ عنه من صفاتِ كمالِهِ مما قصَّ الله تعالى في كتابهِ، وما جاءَ عن نبيّه -صلى الله عليه وسلم-، واعلَمْ أنَّ الجَهميَّةَ جاؤوا بما هو أعظم، فإنَّ اليهودَ والنَّصارى لم يَصِفوا الله بالعدَم، ولم يقولوا: هو في كلّ مكانٍ قول الجَهمية، ولم يقولوا: إنَّ كلامَه مخلوقٌ قول الجَهْميةِ.
فعَمِلَ جَهْمٌ على بَثّ سُمومهِ بين المسلمينَ فكانَ للشرّ رَأسًا.
ذُكر عند أبي نُعَيْم الفَضْل بن دُكَيْن مَن يقولُ: القرآنُ مخلوقٌ، فقال: "والله ما سمِعْتُ شيئًا من هذا حتى خرَجَ ذاك الخبيثُ جَهْمٌ" (?).