لقد بعثَ الله تعالى رسولَه محمَّدًا بالهُدى ودين الحَقَّ، وأنزلَ معهُ الكتابَ نورًا وهدًى للناسِ، فربّى أصحابَه بصِغار العلمِ وكبارِه، فآمَنوا بما جاءَ به وصدَّقوهُ، واتبعوا النُّورَ الذي أنزلَ معَهُ، وكانوا على هَدْيِهِ ونَهْجِهِ وسُنَّتِهِ، فقامُوا بذلكَ وأخَذُوا الكتابَ بقوَّةٍ.
وتبعَهم على ذلك خيارُ الأمَّة بعدَهم.
حتى خَلَفَ من بَعْدِهم خَلْفٌ أعْرَضوا عن الكتابِ، واتَّخذوهُ وراءَهم ظِهريًا، فشرَعوا الشرائعَ دونَه بظُنونٍ وأوهامٍ حَسِبوها حُجَجًا وبَراهينَ، فعزَّزَ لهم الشَّيْطانُ ذلكَ، فحكَموا به على الكتاب المعصومِ، وظنّوا بذلك أنَّهم بَلَغوا غايةَ العُلوم، فظهَرَ الجَعْدُ بن دِرهَم بفاسدِ المَقالةِ، استفادَها من فاسدِ المَعْقول الذي هو في الحقيقةِ عينُ الجَهالةِ، فأعلنَ بدعته وباطله إعلانًا، فصرَّح بتكذيب القرآن، وقالَ: لم يكلّم الله موسى تكليمًا، ولم يتَّخِذْ إبراهيم خليلًا، فأبطلَ بهَواهُ ما جاءَ به الرَّسول -صلى الله عليه وسلم-، ونفى أنْ يكون لله
كلامٌ، فشبَّههُ بالأبكَمِ، وأبْطلَ صلتَه تعالى بالعبادِ، فلا رسولَ مُرْسَلٌ، ولا كتابَ مُنْزَلٌ.