ثمَّ رَحل مِنْهَا فِي الْبر إِلَى الأفقسية مَدِينَة الْملك وَرَأى بهَا غرائب وَحصل لَهُ مَعَ بعض أساقفتهم مناظرة، ثمَّ رَحل من قبرس فِي ذِي الْقعدَة مِنْهَا فأرسوا إِلَى بيروت ثمَّ رَحل إِلَى دمشق ثمَّ طوف فِي بِلَاد الشَّام طرابلس وحماة ثمَّ قطن الْقُدس مُدَّة وشاع ذكره إِلَى أَن مَلأ الأسماع وَصَارَ بشرحه كلمة إِجْمَاع، ثمَّ حج سنة تسع وَأَرْبَعين وجاور ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْقَاهِرَة مَعَ الْكَمَال بن الْبَارِزِيّ فَكَانَ حَظه وَإِن لم يبلغ كل مَا يسْتَحقّهُ نوعا من علمه على غير قِيَاس فزادت حظوته عِنْد أهل المملكة السُّلْطَان وأركان الدولة سِيمَا الْكَمَال وصهره الْجمال، ودرس للنَّاس فِي عدَّة فنون فبهر الْعُقُول وأدهش الْأَلْبَاب فَكَانَ يقْرَأ الْقَارئ بَين يَدَيْهِ ورقة أَو أَكثر ثمَّ يسْرد مَا تتضمنه من تَصْوِير الْمسَائِل ويستوفي كَلَام أهل الْمَذْهَب إِن كَانَ فقها وَكَلَام الشَّارِحين إِن كَانَ غير ذَلِك ثمَّ يتبع ذَلِك بأبحاث تتَعَلَّق بِتِلْكَ الْمسَائِل كل ذَلِك فِي أسلوب غَرِيب ونمط عَجِيب بِعِبَارَة جزلة وطلاقة كَأَنَّهَا السَّيْل وتحرز بديع بِحَيْثُ يكونه جهد الْفَاضِل البحاث عِنْد غَيره أَن يفهم مَا يلقيه وَيدْرك بعض إِدْرَاك مَا يجليه وَلَقَد حَدثنِي غير وَاحِد من ثِقَات الأفاضل أَن الطّلبَة قَالُوا لَهُ تنزل لنا فِي الْعبارَة فَإنَّا لَا نفهم جَمِيع مَا تَقول فَقَالَ شَيْئا يكَاد أَن يكون كشفا لَا تنزلوني إِلَيْكُم ودعوني أرقيكم إِلَيّ فَبعد كَذَا وَكَذَا لمُدَّة حَدهَا تصيرون إِلَى فهم كَلَامي فَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ وَقد حصلت بَيْننَا اجتماعات وصحبة وَرَأَيْت مِنْهُ من حِدة الذِّهْن وذكاء الخاطر وصفاء الْفِكر وَسُرْعَة الْإِدْرَاك وَقُوَّة الْفَهم وسعة الْحِفْظ وتوقد القريحة واعتدال المزاج وسداد الرَّأْي واستقامة النّظر ووفور الْعقل وطلاقة اللِّسَان وبلاغة القَوْل ورصانة الْجَواب وغزارة الْعلم وحلاوة الشكل وخفة الرّوح وعذوبة الْمنطق مَا لم أره)
من أحد قَالَ وأخبرت عَنهُ أَن أَبَاهُ أمره بمطالعة غَزْوَة بدر وإلقائها فِي الميعاد فحفظها برمتها من سيرة ابْن إِسْحَق بِمَا فِيهَا من الْأَشْعَار وحاضر بهَا من الْعشَاء إِلَى نَحْو نصف اللَّيْل وَأصْبح فساقها حَتَّى بهر الْحَاضِرين وَأَن أَخا لَهُ كَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ فِي بعض الْعُلُوم فيجتهد فِي المطالعة حَتَّى يتَوَهَّم أَنه يفوق عَلَيْهِ فَإِذا وَقع الدَّرْس وَقفه على مباحثات وإشكالات مَا خطرت لَهُ مَعَ امتحانهم لَهُ مرَارًا فيجدونه فِي خلوته نَائِما غير مكترث بمطالعة وَلَا غَيرهَا ثمَّ حضرت درسه فِي فقه الْمَالِكِيَّة بِجَامِع الْأَزْهَر وَإِن من لم يحضر درسه لم يحضر الْعلم وَلَا سمع كَلَام الْعَرَب وَلَا رأى النَّاس ب لَوْلَا خرج إِلَى الْوُجُود قَالَ وَمن سمع كَلَامه فِي الْعلم علم أَنه يخبر عَن مُشَاهدَة وغن غَيره يخبر عَن غيبَة