أدل بِشَغْب ثم هالته صولةُ ... رآك لها أمضى جَنانا وأشغَبا
فأحجم لما لم يجد فيك مَطْمعا ... وأقدم لما لم يجدْ عنك مَهربا
فلم يغنه أن كرَّ نحوك مُقبلا ... ولم يُنجه أن حاد عنك مُنَكباً
حملتَ عليه السيفَ لا عزمك انثنى ... ولا يَدُك ارتدت ولا حَدُّه نَبا
لما انتهت النوبة إلى أبي الطيب المتنبي، قال يمدح بدر بن عمار، وقد خرج إلى أسد، فهاجه عن بقرة افترسها فوثب على كفل فرسه؛ وأعجله عن استلال سيفه، فضربه بسوطه، فزل عن كفل فرسه، ودار به الجيش، فقتل، وخرج إلى أسد آخر. فكر عليه، فهرب الأسد منه، بقصيدة أولها:
في الخد أن عزم الخليطُ رحيلا ... مطرُ تزيد به الخدودُ مُحولا
إلى أن قال:
أمُعَفَّرَ الليث الهزبرِ بِسوطه ... لمن ادخرتَ الصارمَ المصقولا؟
وَقَعتْ على الأرْدُنّ منه بَلّيةُ ... نَضَدَتْ بها هام الرفاق تُلُولا
وَرْدُ إذا ورد البحيرة شاربا ... ورد الفراتَ زئيرهُ والنيلا
متخضّبُ بدم الفوارس لابسُ ... في غِبله من لِبدتيه غِيلا
ما قوبلتْ عيناه إلا ظُنتا ... تحت الدُّجى نارَ الفريق حُلُولا
في وحدة الرّهبان إلا أنه ... لا يعرف التحريمَ والتحْليلا
يطأ الثرى مترّفِقا من تِيههِ ... فكأنه آسٍ يَجُسّ عَليلا
ويَردُّ غُفْرته إلى يافوخه ... حتى تصيرَ لرأسه إكليلا
وتظنه مما يُزَمْجِرُ نفسُه ... عنها لِشدة غيظه مَشْغولا
قَصَرتْ مخافَتُه الخُطا فكأنَما ... ركب الكَمىُّ جوادَه مَشْكولا
ألقى فريستَهُ وَبْربَرَ دُونها ... وقَرُبْتَ قُربا خاله تَطفيلا
فتشابه الخُلُقان في إقدامه ... وتخالفا في بَذْلك المأكولا
أسد يرى عضويه فيك كليهما ... مَتْناً أزلَّ وساعداً مفتولا
نيالةِ الطَّلبِات لولا أنها ... تُعطي مكان لجامها مانِيلا
في سرج ظامئةِ الفصوصِ طِمِرةَّ ... يأبى تفَرُّدُها لها التمثيلا
تندَى سوالفُها إذا استَحْضَرْتها ... وتَظن عَقَدْ عِنانها محلولا
ما زال يجمع نفسه في زَوْره ... حتى حسبت العَرْض منه الطولا
ويَدقُ بالصدر الحجار كأنه ... يبغي إلى ما في الحضيض سبيلا
وكأنه غَرَته عين فادَني ... لا يُبصر الخطب الجليل جليلا
أنَفُ الكريم من الدنيئة تاركُ في عينه العددَ الكثير قليلا
والعارُ مَضّاضُ وليس بخائف ... من حتفه مَنْ خاف مما قيلا
سبق التقاءَكهَ يوثبه هاجم ... لو لم تصادمه لجازك ميلا
خذلتُه قوتهُ وقد كافحتهَ ... فاستنصر التسليم والتجديلا
قبضتْ منيتهُ يديه وعُنْقَه ... فكأنما صادفَته مغلولا
سمع ابنُ عمته به وبحاله ... فنجا يُهرول منك أمس مَهُولا
وأمرّ مما فر منه فِرارهُ ... وكقتلهِ ألا يموت قتيلا
تَلَفُ الذي اتخذ الجراءة خُلة ... وَعَظَ الذي اتخذ الفِرار خليلا
والذي يشهد به الحق، أن معاني أبي الطيب أكثر عدداً، وأسد مقصداً، ألا ترى أن البحتري قد قصر مجموع قصيدته على وصف شجاعة الممدوح. في تشبيهه بالأسد مرة، وتفضيله عليه أخرى، ولم يأت بشيء سوى ذلك؛ وأما أبو الطيب فإنه أتى بذلك في بيت واحد وهو قوله:
أمعفَر الليثِ الهِزبْر بسوطهِ ... لمن ادّخرتَ الصارمَ المصقولاُ
ثم إنه تفنن في ذكر الأسد: فوصف صورته، وهيئته، ووصف أحواله، في انفراده في خيلائه، وفي هيئة مشيه. واختياله مع شجاعته، وشبه الممدوح به في الشجاعة، وفضله عليه بالسخاء، ثم ذكر الأنفة، والحمية التي بعثت الأسد على قتل نفسه بلقاء الممدوح، وأخرج ذلك في أحسن مخرج، وأبرزه في أحسن مخرج، وأبرزه في أحسن معنى، ولفطانة أبي الطيب لم يتعرض لما ذكر بشر في أبياته التي ذكرناها، لعلمه أن بشراً قد ملك رقاب تلك المعاني، واستحوذ عليها، ولم يترك لغيره شيئاً يقوله، ولم يقع فيما وقع فيه البحتري من الانسحاب على ذيل بشر، لأنه قصر عنه تقصيراً كثيراً، ولما كان الأمر كذلك، عدل أبو الطيب عن سلوك تلك الطريقة، وسلك غيرها، فجاء فيما أورده مبرزاً، فإن بشراً قال:
إذاً لرأيت ليثا أمَّ ليثا ... هِزَبْراً أغلباً لاقى هِزْبراَ