فإن قول أبي الطيب:) والشدائد للنصل (أكرم لفظا ومعنى، من قول أبي تمام: إن الثقل إنما يضاعف للبازل من المطايا.
وقال أيضا:
تخون المنايا عهدَه في سليله ... وتنصرُه بين الفوارس والرَّجْل
وهذا أشرف من بيتي أبي تمام اللذين هما:
لا غَرْو إن فَننَان من عَيْدانِه ... لقيا حِماماً للبّرية آكلا
إن الأشاء إذا أصاب مُشذَّبُ ... منه اتْمَهَلَّ ذُراً وأثّ أسافلا
وكذلك قال أبو الطيب:
ألستَ من القوم الألي من رماحهم ... نَداهم ومن قتلاهمُ مهجةُ البخل
تُسَليهمُ عَلياؤهمْ عن مصابهم ... ويشغلُهم كسبُ الثناء عن الشغل
وهذان البيتان خير من بيتي أبي اللذين هما:
شَمَخَتْ خلا لك أن يؤاسيَك امرؤ ... أو أن تذكر ناسيا أو غافلا
إلا مَواعظَ قلدها لكَ سمْحةً ... إسجاحُ لبك سامعا أو قائلا
ومن تأمل هاتين القصيدتين لهذين الشاعرين المفلقين، علم فضل أبي الطيب على أبي تمام، ورأى قولي ما قالت حذام.
ومما توارد عليه أبو عبادة البحتري وأبو الطيب المتنبي وصف الأسد، ومبارزته، فحكم لأبي الطيب بالتقدم على البحتري، وذلك أن بشر بن عوانة العبدي سبقهما إلى هذه الطريقة في قصيدته الرائية، وهي من النمط العالي الذي لم ينسج على منواله، وكل الشعراء لم تسم قرائحهم إلى استخراج معنى ليس بمذكور فيها:
أفاطُم لو شهدتِ ببْطن خَبْتٍ ... وقد لاقَى الهزبرُ أخاكِ بثْراً
إذاً لرأيتِ ليثاً أمَّ ليثاً ... هِزبْراً أغلباً لاقَى هِزبرا
تقدَم ثم أحجمِ عنه مهري ... محاذَرةً فقلتُ: عُقرتَ مهرا
أنِلْ قدميّ ظهرَ الأرض إني ... وجدتُ الأرضَ أثبت منك ظَهرا
وقلتُ له وقد أبدى نِصالا ... مُحَدَّدة ووَجْهاً مكفهرّا
يُدِلُّ بمِخلَب وبحدّ ناب ... وباللحظات تحسبِهنَّ جَمرا
وفي يُمنايَ ماضي الحدّ أبقى ... بمَضْربه قِراعُ الحرب أُثْرَا
ألم يبلغك ما فعلتْ ظُباهُ ... بكاظِمة غَداةَ لقيتُ عمرا
وقلبي مثلُ قلبك ليس يَخثىَ ... مُصاولةً فكيف يخاف ذُعرا؟
وأنت ترومُ للأشبال قُوتا ... وأطلب لابنة الأعمام مَهْرا
ففيمَ تسومُ مثلي أن يُولَّي ... ويجعلَ في يديك النفسَ قَسْرا
نصحتُك فالتمِسْ يا ليثُ غيري ... طعاما إن لحميَ كان مُرّا
فلما ظن أن الغِش نصحي ... وخالفني كأني قلتُ هُجرا
مشى ومشيتُ من أسَدَين وأما ... مَراما كان إذ طلباه وَعْرا
يُكفكف غِيلةً إحدى يديه ... ويبسطُ للوثُوب علىّ أخرى
هززتُ له الحُسامَ فخلت أني ... شققتُ به لدى الظلماء فَجرا
وجُدتُ له بجائشة أرتْهُ ... بأنْ كَذَيتْه ما مَنتَّه غَدْرا
وأطلقتُ المهنَّدَ من يميني ... فقدّ له من الأضلاع عشرا
فخر مُضَرَّجا بدم كأني ... هدمتُ به بناء مُشْمَخِرا
وقلت له يَعز على أني ... قَتَلتُ مناسبي جَلَداً وفخرا
ولكنْ رمتَ شيئا لم يُرمْهُ ... سواك فلم أطق يا ليثُ صبرا
فإن تَكُ قد قُتلتَ فليس عاراً ... فقد لاقيتَ ذا طَرَفين حُرّا
وقال أبو عبادة البحتري في قصيدته التي أولها: أجدكَّ لا ينفكّ يسري لزينبا.
وفي أثنائها تعرض لذكر الأسد، ومبارزة الفتح بن خاقان له. قال:
وما نَقمَ الحسادُ إلا أصالة ... لديكَ وفعلا أرْيَحِيَّا مهذَّبا
وقد جربوا بالأمس منك عزيمةً ... فَضَلْتَ بها السيف الحُسام المجَّربا
غداةَ لقيتَ الليث والليثُ مُخْدر ... يُحَدَّد نابا للقاء ومخلَبا
إذا شاء غادَى عانةً أو غدا على ... عقائل سِرب أو تقنص رَبربا
شهدتُ لقد أنصفتَه حين تنبرِي ... له مُصْلِتا عَضْبا من البيض مِقَضَبا
فلم أر ضِرغامَين أصدق منكما ... عِراكَا إذا الهيابةُ النِكسُ كذَّبا
وانتقد على البحتري هذا البيت؛ فإن قوله) الهيابة النكس كذبا (تفريط في المدح، وكان ينبغي أن يقول إذا البطل كذب، وإلا فأي مدح في إقدام المقدم في الموضع الذي يفر فيه الجبان؟ وهلا قال كما قال أبو تمام:
فتى كلما ارتاد الشجاعُ من الرَّدَى ... مَفَرَّا غداة المأزِق ارتادَ مَصْرَعا
ومنها:
هزبرُ مشى يبغي هزبراً وأغلبُ ... من القوم يغشى باسل الوجهِ أغْلبا