إن الفجيعةَ بالرياض نواضراً ... لأجلُّ منا بالرياض ذَوابلا
لَهفِي على تلك الشواهد فيهما ... لو أمهلتْ حتى تكونَ شمائلا
إن الهلالَ إذا رأيت نَموه ... أيقنتَ أنْ سيكونُ بدراً كاملا
قل للأمير وإن لقيت مُوَقَّراً ... منه يَريِبُ الحادثاتِ حُلاحِلا
إن تُرْزَ في طَرَفَي نهار واحد ... رَزأين هاجا لَوْعةَ وَبلابلاِ
فالثقل ليس مضاعفاً لمطيَّة ... إلا إذا ما كان وهما بَازِلا
لا غَرْوَ إن فَنَنان من عَيْدانه ... لَقِينا حِماماً للبرية آكلا
إن الأشاء إذا أصاب مُشذبَّ ... منه تْمَهَلَّ ذراً وأثَّ أسافلا
شمَختْ خلالُك أن يُواسيك امرُؤ ... أو أن تُذكَر ناسيا أو غافلا
إلا مواعَظ قادها لك سَمْحةً ... إسْجاحُ لُبك سامعاً أو قائلا
هل تَكْلَفُ الأيدي بَهزّ مُهند ... إلا إذا كان الحسامَ الفَاصلا
وقال أبو الطيب المتنبي في مرثية بولد صغير لسيف الدولة، أولها:
بنا منكَ فوق الرَّمل ما بكَ في الرمل ... وهذا الذي يُضنْي كذاك الذي يُبلي
كأنك أبصرتَ الذي بي وخِفْتَه ... إذا عشتَ فاخترت الحِمام على الثُكل
تركت خدود الغانيات وفوقها ... دموعُ تُذيب الحسنَ في الأعين النجْل
تبُل الثرى سُودا من المِسْك وحده ... وقد قَطَرتْ حُمراً على الشَّعَر الجَثل
فإن تَكُ في قبر فإنك في الحَشَا ... وإن تك طفلا فالأسى ليس بالطفل
ومثلك لا يُبكي على قدْر سنَّة ... ولكن على قدر المَخيلة والأصْل
ألستَ من القوم الألىَ من رِماحهم ... نَداهم ومن قتلاهُمُ مُهْجةُ البخل
بمولودهم صمتُ اللسان كغيره ... ولكنَّ في أعطافه مَنْطقَ الفضل
تسليهمُ عَلياؤهْم عن مُصابهمْ ... ويَشغلهمْ كسبُ الثناء عن الشغل
أقلُّ بلاءً بالرزايا من القَناَ ... وأقدمُ بين الجَحْفَلين من النَّبْل
عزاءَك سيفَ الدولة المقتَدى به ... فإنك نصْلُ والشدائدُ للنصل
مُقيم من الهيجاء في كل منزل ... كأنَك من كل الصوارم في أهل
ولم أر أعصى منك للحزُن عبرةً ... وأثبتَ عقلا والقلوبُ بلا عقل
تخون المنايا عَهْدَه في سليسلهِ ... وتنصرُه بين الفوارس والرَّجْل
ويَبقى على مرّ الحوادث صبرهُ ... ويبدو كما يبدو الفِرِنْدُ على الصَّقلْ
ومن كان ذا نفس كنفسك حُرةٍ ... ففيه لها مُعنٍ وفيها له مُسْلي
وما الموتُ إلا سارقُ دق شخصهُ ... ويُسلمه عند الولادة للنمل
بنفسي وليدُ عاد من بعد حَمْله ... إلى بطن أم لا تُطَرَّقُ بالْحَمل
بَدَا وَلهُ وعدُ السَّحابة بالرَّوَي ... وصَدَّ وفينا غُلَةُ البلدِ المحل
وريعَ له جيشُ العدو وما مشى ... وجاشت له الحربُ الضروسُ وما تَغْلى
وقد مدّت الخيلُ العتاقُ عيونَها ... إلى وقت تبديل الرّكاب من النعل
فانظر إلى ما صنع هذان الشاعران في هذا المقصد الواحد، وكيف هام كل واحد منهما في واد منه مع اتفاقهما في بعض معانيه، وسأبين ما اتفقنا فيه، وما اختلفنا، وأذكر الفاضل من المفضول، فأقول: أما الذي اتفقا فيه، فإن أبا تمام قال:
لهفي على تلك الشواهد فيهما ... لو أُمْهلتْ حتى تكون شمائلا
وقال أبو الطيب:
بمولودهم صمتُ اللسان كغيره ... ولكنَّ في أعطافه منطق الفصل
فأتى بالمعنى الذي أتى به أبو تمام، وزاد عليه بالصناعة اللفظية، وهو المطابقة في قوله: صمت اللسان، ومنطق الفصل، وقال أبو تمام:
نجمان شاء اللهُ ألا يطلعا ... إلا ارتدادَ الطَّرف حتى يأفلا
وقال أبو الطيب:
بَدَا وَلَهُ وعد السحابة بالرَّوَي ... وصدّ وفينا غُلة البلد المحل
فوافقه في المعنى، وزاد عليه بقوله: وفينا غلة البلد المحل. أما ما اختلفنا فيه، فإن أبا الطيب أشعر فيه من أبي تمام أيضاً، وذلك أن معناه أمتن من معناه، ومبناه أحكم من مبناه، فإن أبا الطيب المتنبي قال:
عزاءَك سيفَ الدولة المقتدىَ به ... فإنك نصلُ والشدائدُ للنصل
وهذا البيت بمفرده خير من بيتي أبي تمام هما:
إن تُرْزَ في طرفي نهار واحد ... رُزْأين هاجا لوعةً وبلابلاَ
فالثقل ليس مضاعَفاً لمطية ... إلا إذا ما كن وَهْما بازلا