ومعنى هذا البيت ظاهر، ولكن عيب عليه قافيته فإنها وإن كانت في أصل اللغة بمعنى القطع، لكن غيرتها العامة وجعلتها دالة على ما يقبح ذكره، وهذه الكلمة وما يجري مجراها، لا يعاب البدوي على استعمالها، لأن الألفاظ لم تتغير في زمنه كقول أبي صخر الهذلي:
قد كان صَرم في الحياة لنا ... فَعَجِلتَ قبل الموت بالصرم
فإنه لا يعاب عليه كما عيب على المتنبي، وكقوله:
فأرحامُ شعر يتصلن لدنّه ... وأرحامُ مالٍ لا تنى تتقطع
وتشديد النون من لدن غير معروفة في لغة العرب. قال ابن جني لدنه فيه قبح وبشاعة، إذ لم يكن بعد النون نون، وروى يتصلن بجوده، وبعد هذا البيت:
فتى ألفُ جزء رأيُه في زمانه ... أقلُّ جُزَيء بعضُه الرأيُ أجمع
ألف جزء خبر مبتدأ، وهو رأيه، وأقل مبتدأ، بعضه الرأي خبره، وهذان البيتان من قصيدة أولها:
حُشاشة نفس ودعتْ يوم وَدّعوا ... فلم أدر أيذ الظاعنين أشيع
أشاروا بتسليم فجدنا بأنفس ... تَسيل من الآماق والسَّمُ أدمُع
حشاي على جمر ذكيّ من الهوى ... وعيناي في روض من الحسن ترتع
إلى أن قال في أثنائها في وصف القلم:
خبتْ نارُ حرب لم تهجها بنانهُ ... وأسمرُ عُريانُ من القِشر أصَلعُ
جعل القلم أصلع للينه، وملاسته كالرأس الاصلع.
نحيف الشوى يعدو على أم رأسه ... ويَحفىَ فيقوى عدوهُ حين يقطع
يقول: هذا القلم رقيق الأطراف، يريد رقة جلفته، وأم رأسه: وسطه، ويحفى: أي يكل عن المشي، فيقوى عدوه إذا قط:
يَمُج ظلاماً في نهارٍ لسانُه ... وُيفهمِ عمن قال ما ليس يُسْمع
ذُبابُ حُسام منه أنجي ضريبةً ... وأعصى لمولاه وذا منه أطوعُ
بكف جوادٍ لو حكتها سحابةُ ... لما فاتها في الشرق والغرب موضع
وقال أبو تمام فيه من قصيدة أولها:
متى أنتَ عن ذهيلة الحيّ ذا هلُ ... وقلبُك منها مدةَ الدهر آهل
إلى أن قال مخاطباً لأبي جعفر محمد بن عبد الملك الزيات:
لك القلمُ الأعلى الذي بشَباتهِ ... تُصابُ من الأمر الْكُلى والمفاصل
لك الخلوات اللاء لولا نجيها ... لما احتفلتْ للملك تلك المحافل
لعابُ الأفاعي القاتلات لعابُه ... وأرْىُ الجني اشتارته أيد عواسل
له ريقَهُ طَلُّ ولكنّ وقعَها ... بآثاره في الشرق والغرب وابل
فصيح إذا استنطقته وهو راكب ... وأعجمُ إن خاطبته وهو راجل
إذا ما امتطى الخمسَ اللِطافَ وأفرغتْ ... عليه شِعاب الفكِر وهْي حوافل
أطاعته أطرافُ القَنا وتَقَوَّضَتْ ... لِنَجْواه تقويض الخيامِ الجِحافلُ
إذا استغزر الذهنَ الذكي وأقبلت ... أعاليه في القرطاس وهي أسافل
وقد رَفَدتْه الخِنصران وسَدَّدَتْ ... ثلاثَ نواحيه الثلاثُ الأنامل
رأيتَ جليلا شأنهُ وهو مُرهف ... ضنىً وسمينا خطبهُ وهو ناحل
وقال بعض مداح العلامة المخدوم بهذا الكتاب من قصيدة أولها:
غفر القربُ ما جناه البعادُ ... وأكَّنته في الهوى الأكبادُ
إلى أن قال في وصف القلم:
ذو يَرَاع إذاً مشى يُنبتُ الدُّرَّ ... بأرض القرطاس مِنه المدادُ
أسمرُ ليس مثلهُ يحسْنُ الأبْ ... يض فعلاً والأسمر المُنْآد
عَلَمُ في العلوم يمشي على بَيْ ... داءِ نُور فيظهرُ الإرشاد
ذو بيان لولاهُ أخفي مرور الد ... م هر ما شادهَ قديما زياد
كل علم يُرامُ منه إذا ما ... شَدَخُوا رأسَه به يُستفادُ
وإذا أعجم الكلامَ فقد أعرب ... ما يَستبين منه السَّدادُ
مَقصد الكاتبين حتى إذا ما ... قصدُوه لم يُدركوا ما أرادوا
وتراه يجري على الرأس في خد ... مة باريه إن دعاه مُراد
أخرسُ غير أنه ربما ينْ ... طق فصلَ الخطاب وهْو جماد
رقّ جسما وسحَّ دمعاً إلى أن ... خِلَته مُدْنَفاً جفتْه سُعادُ
قال أبو تمام يرثى ابنين كانا لعبد الله بن طاهر صغيرين ماتا في يوم واحد بقصيدة أولها:
ما زالت الأيامُ تُخبر سائلاً ... أنْ سوف تَفجَع مُسْهلا أو عاقلا
إلى أن قال في أثنائها:
مجدُ تأوّب طارقاً حتى إذا ... قلنا أقامَ الدهرَ أصبح راحلاَ
نجمان شاء اللهُ ألا يطلُعا ... إلا ارتدادَ الطرفِ حتى يأفلاِ