وقد أكثر الشعر في هذا المعنى: فقال أبو تمام:
وليس يَعرف طيبَ الوصل صاحبهُ ... حتى يُصاب بنأي أو بِهجران
وقال أيضا:
والحادثات وإن أصابك بؤسُها ... فهو الذي أنباك كيف نعيمُها
وقال أيضا:
سمُجت ونبهنا على استساجها ... ما حولها من نَضْرة وجمال
فلذاك لم تُفْرطْ كآبة عاطلٍ ... حتى يجاورها الزمان بحالي
وقد مَلحُ بشارُ في قوله:
وكُنّ جواري الحيّ ما دمت فيهمُ ... قِباحاً فلما غبت صرنَ مِلاحا
وقال البحتري:
وقد زادها إفراط حسن جِوارها ... خلائق أصفار من المجد خُيّب
وحسنُ داريّ الكواكب أنَ تُرى ... طوالع في داج من الليل غيهب
ومنها:
مَن نفعهُ في أن يُهاج وضره ... في تركه لو تَفطن الأعداء
فالسلم يكسر من جناحي ماله ... بنواله ما تجبرُ الهيجاء
ومنها:
يا أيها المُجديَ عليه روحهُ ... إذ ليس يأتيه لها استجداء
أحْمدْ عُفاتَك لا فجعت بفقدهم ... فَلترك ما لم يأخذوا إعطاء
لا تَكثر الأمواتُ كثرةَ قِلةّ ... إلا إذا شقيتْ بك الأحياء
والقلب لا ينشق عما تحته ... حتى تحل به لك الشحناء
ومنها:
أبدأتَ شيئاً منك يُعرف بدؤه ... وأعدتَ حتى أنكر الإبداء
فالفخر عن تقصيره بك ناكب ... والمجد من أن تستزاد براء
فإذا سئلت فلا لأنك محِوجُ ... وإذا كُتِمت وشت بك الآلاء
وإذا مُدحت فلا لتكسب رِفعة ... للشاكرين على الإله ثناء
وإذا مُطرت فلا لأنك مُجدِب ... يُسقى الخصيبُ وتمُطر الدأماء
لم تحك نائَلَك السحابُ وإنما ... حمت به فصبيبها الرُّحضاء
لم تلقَ هذا الوجهَ شمسُ نهارنا ... إلا بوجه ليس فيه حياء
وآخرها:
لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هُو ... عُقِمتْ بمولد نسلها حوّاء
اللذ: لغة في الذي. يقول: لو لم تكن من هذا الورى الذي كأنه منك لأنك جماله وشرفه وأفضله، لكانت حواء في حكم العقيم التي لم تلد، ولكن بك صار لها ولد، وهذا البيت مما اعتل لفظه، ولم يصح معناه فإذا قرع السمع، لم يصل إلى القلب إلا بعد إتعاب الفكر، وكدا الخاطر، ثم إن ظفر به بعد العناء والمشقة فقلما يحصل على طائل.
ومما يشان على أبي الطيب قوله في المدح:
أني يكون أبا البرايا آدم ... وأبوك والثقلان أنت محمد
وتقديره: أني يكون آدم أبا البرايا، وأبوك محمد، وأنت الثقلان.
وقال من نسيب قصيدة:
إذا عذلوا فيها أجبتُ بأنّةٍ ... حُبَيّبتا قلبي فؤادي هيا جُمْل
أراد يا حبيبتي، أبدل الياء من حبيبتي ألفا تخفيفاً، وقلبي منصوب لأنه بدل من حبيبتا، وفؤادي بدل من قلبي، وهذا كقولك أخي، سيدي، مولاي، نداء بعد نداء، ويقال في النداء: يا زيد وأبا زيد، وهيا زيد. وأشباه هذه الأبيات كثيرة في شعره، كقوله:
لساني وعيني والفؤادُ وهمتي ... أوُدُّ اللواتي ذا اسمها منكَ والشطر
ومما ينعى علي بن أبي الطيب التعسف في اللغة والإعراب، وهو مما يشبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عند المحتجين عنه، اعتذار له، ومناضلة دونه، كقوله:
فِدىً مَنْ على الغبراء أولهم أنا ... لهذا الأبيّ الماجدِ الجائدِ القَرْمِ
ولك يحك عن العرب الجائد، وإنما المحكي رجل جواد، وفرس جواد، ومطر جواد، وهذا من قصيدة يمدح بها الحسين بن إسحاق التنوخي وأولها:
ملامُ النوى في ظُلمها غايةُ الظلم ... لعل بها مثل الذي بي من السقم
فلو لم تَغَرْ لم تَزْوِ عني لقاءكم ... ولو تُرِدكنُ لم تكن فيكم خَصمى
وقال محمد بن وهيب في هذا المعنى:
وحاربني فيه ريب الزمان ... كأن الزمان له عاشق
وقال البحتري:
قد بّين البينُ المفرقُ بيننا ... عشقَ النوى لربيب ذاك الرَّبرب
منها:
أمنعِمةُ بالعودة الظبيةُ التي ... بغير وَليّ كان نائلَها الوسمي
أصل هذا المعنى مع كثرة تداوله لبشار، حيث قال:
قد زرتني زورةً في الدهر واحدةً ... ثَنىَّ ولا تجعليها بيضة الديك
وقبل البيت الذي فيه لفظة الجائد:
أذاق الغواني حسنُه ما أذَقْنَني ... وعفّ فجازاهن عني على الصُّرْم