ويبدو أن صاحبها كان قد أعلن في مقدمتها ضيقه بمساوئ أيامه وتفكيره في الخلاص منها، بينما التزمت روحه جانب الرضا بدنياها والتغاضي عما وراءها. ولهذا احتدم الجدل بينهما حتى تحدته بأن يقدم على الانتحار حرقًا إن كان حقًّا عازفًا عن الدنيا راغبًا في الموت فما جرؤ صاحبها في بداية الأمر. ولما امتنع عليها في الحالتين، الرضا بالواقع أو الرضا بالموت، امتنعت هذه الأخرى عن مناقشته ولكنه ما لبث حتى عاود التفكير ثانية فيما دعته إليه واعتزم أن ينتقل وإياها إلى عالم الآخرة، وبدأ يستدرجها في الحديث عساها تشجعه، وأشهد عليها جمعًا تخيله من الناس، ولكنها لم تستجب لدعوته وقالت له تشجعه: ابتغ يومًا هنيئًا وتناس الهم، "وإلا فأين أنت من مصيبة" مواطن حرث أرضه وحمل محصوله إلى بطن مركب وأعد رحلته وحسب أن عيده قد اقترب، وفجأة رأى انطلاق إعصار من الشمال، وهو يرقب في المركب والشمس تدخل خدرها، فجهد في أن ينفلت بزوجته وأولاده ولكنهم هووا في بحيرة تعج بالتماسيح في سواد الليل، فانتهى "وقد خلص بنفسه" إلى أن قعد وزفر ودمع وهو يقول: لئن لم أبك تلك الولادة التي لا يرجى لها خروج من عالم الموتى إلى حياة أخرى على الأرض، فإنما أنوح على صغارها الذين قضوا فراخًا في البيضة وشهدوا طلعة التمساح من قبل أن يحيوا ... ".

وهدفت الروح من رواية هذه القصة وقصة أخرى تلتها، أن تقنع صاحبها بأنه إذا تأمل مصائب الناس هانت عليه بلواه. ولكن النتيجة كانت عكسية، فأثار حديثها وجيعته واندفع يجيبها في حديث طويل يتساءل فيه عن السلوى التي تغريه بها وعن قيمة الحياة التي تدعوه إلى الرضا بها، بعد أن زلزلت عواديها كيانه وفقد فيها الكرامة والثقة والأمل جميعًا. ونظم إجابته لها في أربع مقطوعات قصار. وكشف لها في الأولى عما أصاب سمعته وكرامته، نتيجة فيما يحتمل لتكفله بدعوة لم تجد سميعًا ولا مجيبًا بقدر ما قوبلت به من صد وإساءة. فقال في بيتين من أبياتها:

كفاك أن عيف اسمي كفاك، أكثر من رائحة الرخم، في نهار صائف اتقدت سماؤه.

كفاك أن عيف اسمي كفاك، أكثر من سمعة زوجة، ردد الناس البهتان عنها لبعلها.

وفي نظمه الثاني أخذ يأسى على زوال المستجيب والصديق والقريب وانتفاء الخير، قائلًا فيما قال:

لمن أتحدث اليوم - والأشقاء أشرار - وأصدقاء اليوم لا يرغبون!

لمن أتحدث اليوم - وقد قر الناس على السوء - وأهملت الحسنى في كل مكان!

لمن أتحدث اليوم - وما عاد أحد يذكر الماضي - ولا معونة لأحد يعمل في هذا الزمان!

لمن أتحدث اليوم - وما من رضي الفؤاد - ومن كان يرافق لم يعد له وجود!

لمن أتحدث اليوم - وبأساء ألمت بالبلاد - ما لها من حدود!

وفي نظمه الثالث عاود الرجل ذكر الموت، فما تصور دونه خلاصًا من عجز مسعاه وما رآه من لؤم الطباع، وقال فيما قال:

بدا الموت أمامي اليوم كالبرء للسقيم والخروج إلى الفضاء بعد حجز.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015