بسم الله الرحمن الرحيم
تتطلب وقائع المعاصرة النسبية بين الحضارات الكبرى في الشرق الأدنى القديم، ومجالات التعامل والتكامل، أو التقابل والتنافس، بين إنجازات شعوبها وثقافاتها، إيثار تضمين المعالم الرئيسية لتاريخها العريض في مؤلف واحد، ذي خطة شمولية متجانسة، يتناول مراحل التطور والتأثير في حضارات مصر والعراق والشام وشبه الجزيرة العربية، وبعض أنحاء شمال إفريقيا وشرقها وشمال السودان، إن صعودًا، وإن توقفًا أو هبوطًا، خلال عصورها القديمة وفي عالمها الكبير. وذلك هدف لا ينتقص من قيمة ما صدر عن تاريخ هذه أو تلك من مؤلفات فردية، باللغة العربية أم بغيرها من اللغات. وبدأت خطة الإصدار الأول لهذا الكتاب في عام 1967 لتحقيق الفكرة المسبقة، فكرة تقديم تاريخ حضارة الشرق الأدنى القديم متواصلًا في مؤلف شامل كبير. ولكن ما أن تمت به ابتداء الخطوط العريضة لحضارتي مصر والعراق، حتى تأكد ما توقعناه من أن مختصر الحديث العلمي عنهما، أضخم من أن يسع معهما بحوثًا أخرى. واقتضى هذا إفرادهما بجزء أول، على أن يخصص لبقية الحضارات جزء آخر، أو جزءان يصدران بعده.
وندع التمهيد بالعوامل الموجهة لمسيرة الحضارات الرئيسية لهذا الشرق القديم، وصور التشابه أو التنوع بين إمكانياتها واتجاهاتها الثقافية الخاصة، للفصل الأول من هذا الكتاب. وحسب المقدمة الراهنة أن تعرض موجزًا لبعض المذاهب الفكرية الحديثة في تعليل البواعث والمضامين ذات الأثر في تشكيل طابع الحضارات الكبرى، ومصادرها المتنوعة. وللشرق الأدنى مكانة عريقة، في فلك تواريخ الشعوب الكبرى، وفي مراكب الحضارة الإنسانية بعامة، في عصوره القديمة، وبعض عصوره الوسيطة. وقد تداولت على أممه الكبرى، عصور استمسكت خلالها بمراتب الريادة أو القيادة في عدد من مجالات الفكر والمادة، وعصور أخرى انفلتت منها زعامتها والتزمت فيها بالتبعية الضمنية أو الكلية لغيرها. ولهذا كان من البدهي أن تشغل علل أحداثها وخواصها جانبًا مما تدارسه كبار المفكرين منذ الازدهار الإغريقي وحتى الآن، عن فلسفة المسببات لازدهار الحضارات العالمية، وعلل ضعفها أو انهيارها، في العصور المتعاقبة.
وإذا عدونا آراء مفكري العصور الكلاسيكية القديمة، ومؤرخي العصور الوسطى، إلى آراء رواد الفكر الحديث، بحسبانها أقرب مما سواها إلى مفاهيم الثقافة المعاصرة، ألفينا محاولات عدة لرد نوعية الحضارات وطبيعة تطوراتها، إلى جذور وفروع قد يرتب بعضها بنواميس الكون وسنن الحياة وبداهة التطور حينًا، ويتصل بعضها بإيحاءات البيئات الطبيعية حينًا آخر، ويتأثر بعضها بالروح الشعوبية حينًا ثالثًا. دون أن تنفي حداثة هذه الآراء وجود أصول مهدت لها، من عصور سابقة عليها.
ففي المدرسة الإيطالية، ذهب "فيكو" في دفاعه عن منهجية علم التاريخ إلى أن لحضارات الشعوب قواعد مطردة جرت على مقتضاها، تستوي في ذلك أمور العمران، وتصرفات الجماعات، وقيم الأخلاق والسلوك، وما عداها. وأقر "فيكو" بأن ما يجعل فترة تاريخية ما جديرة بالدراسة، لا يتمثل فيما حققته من أمجاد تقاس بمقاييسها الذاتية فحسب، وإنما تتحدد قيمتها الجوهرية أساسًا بوضعها في نسيج التاريخ العام.