روي أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي عليه تعلق قلبه بأحوال أهله فأمره الله تعالى أن يضرب عصاه على صخرة، فانشقت وخرج منها صخرة ثانية، ثم ضرب عصاه عليها فانشقت وخرج منها صخرة ثالثة، ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت فخرجت منها دودة كالذرة وفي فيها شيء يجري مجرى الغذاء لها، ورفع الله تعالى الحجاب عن سمع موسى عليه السلام فسمع أنّ الدودة كانت تقول: سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني. فإن قيل: إن كلمة على للوجوب فيدل على أنّ إيصال الرزق إلى الدابة واجب على الله تعالى. أجيب: بأنه تعالى إنما أتى بذلك تحقيقاً لوصوله بحسب الوعد والفضل والإحسان وحملاً على التوكل فيه. وفي هذه الآية دليل على أنّ الرزق إلى كل حيوان واجب على الله تعالى بحسب الوعد والله تعالى لا يخل به، ثم قد نرى أنّ إنساناً لا يأكل من الحلال طول عمره، فلو لم يكن الحرام رزقاً لكان الله تعالى ما أوصل رزقه إليه فيكون الله تعالى قد أخل بالواجب، وذلك محال فعلمنا أنّ الحرام قد يكون رزقاً {ويعلم} تعالى {مستقرّها} قال ابن عباس: هو المكان الذي تأوي إليه وتستقر فيه ليلاً ونهاراً {ومستودعها} هو الذي تدفن فيه إذا ماتت. وقال عبد الله بن مسعود: المستقر: أرحام الأمهات، والمستودع: المكان الذي تموت فيه. وقال عطاء: المستقر: أرحام الأمهات، والمستودع: أصلاب الآباء. وقيل:
الجنة أو النار والمستودع القبر. لقوله تعالى في صفة الجنة والنار: حسنت مستقرّا، وساءت مستقرّا ومقاماً، ولا مانع أن يفسر ذلك بهذا كله {كل} أي: كل واحدة من الدواب ورزقها ومستقرّها ومستودعها {في كتاب} أي: ذكرها مثبت في اللوح المحفوظ {مبين} أي: بيّن كما قال تعالى {ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} (الأنعام، 59) . ولما أثبت تعالى بالدليل المتقدّم كونه عالماً بالمعلومات أثبت كونه تعالى قادراً على كل المقدورات بقوله تعالى:
{
وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام} أي: من أيام الدنيا أوّلها الأحد وآخرها الجمعة، وتقدّم الكلام على تفسير ذلك في سورة الأعراف {وكان عرشه على الماء} قال كعب: خلق ياقوتة خضراء، ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء. وقال أبو بكر الأصمّ: ومعنى قوله تعالى: {وكان عرشه على الماء} كقولهم السماء على الأرض، وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملتصقاً بالآخر. وقال حمزة: إن الله عز وجل كان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وخلق القلم، فكتب به ما هو خالقه، وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبح الله تعالى ومجده ألف عام قبل أن يخلق شيئاً من خلقه، ففي هذا دلالة على كمال قدرته تعالى؛ لأنّ العرش مع كونه أعظم من السموات والأرض كان على الماء، وقد أمسكه الله تعالى من غير دعامة تحته ولا علامة فوقه. وقوله تعالى {ليبلوكم} متعلق بخلق، أي: خلقها وما فيها منافع لكم ومصالح ليختبركم وهو أعلم بكم منكم {أيكم أحسن عملاً} أي: أطوع لله وأورع عن محارم الله، وهذا القيام الحجة عليهم. وقد مرّ أمثال ذلك، ولما بين تعالى أنه إنما خلق هذا العالم لأجل ابتلاء المكلفين وامتحانهم، وهذا يوجب القطع بحصول الحشر والنشر؛ لأنّ الابتلاء والامتحان يوجب تخصيص المحسن بالرحمة