والثواب وتخصيص المسيء بالعقاب وذلك لا يتم إلا مع الاعتراف بالمعاد والقيامة. خاطب تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم فقال جلا وعلا: {ولئن قلت} يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك {إنكم مبعوثون من بعد الموت} أي: للحساب والجزاء {ليقولن الذي كفروا إن} أي: ما {هذا} أي: القرآن بالبعث أو الذي تقوله {إلا سحر مبين} أي: بين. وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء، فيكون ذلك راجعاً للنبيّ صلى الله عليه وسلم والباقون بكسر السين وسكون الحاء، ولما حكى تعالى عن الكفار أنهم يكذبون رسول الله صلى الله عليه

وسلم حكى عنهم نوعاً آخر بقوله تعالى:

{ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى} مجيء {أمّة} أي: جماعة من الأوقات {معدودة} أي: قليلة {ليقولنّ} أي: استهزاء {ما يحبسه} أي: ما يمنعه من الوقوع قال الله تعالى: {ألا يوم يأتيهم} كيوم بدر {ليس مصروفاً} أي: مدفوعاً العذاب {عنهم وحاق} أي: نزل {بهم} من العذاب {ما كانوا به يستهزؤون} أي: الذي كانوا يستعجلون، فوضع يستهزؤون موضع يستعجلون؛ لأنّ استعجالهم كان استهزاء. فإن قيل: لم قال تعالى: وحاق على لفظ الماضي مع أنّ ذلك لم يقع؟ أجيب: بأنه وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقاً ومبالغة في التأكيد والتقرير والتهديد. ولما ذكر تعالى أنّ عذاب الكفار وإن تأخر إلا أنه لا بدّ وأن يحيق بهم ذكر بعده ما يدل على كفرهم وعلى كونهم مستحقين لذلك العذاب بقوله تعالى:

{ولئن أذقنا} أي: أعطينا {الإنسان} أي: الكافر {منا رحمة} أي: نعمة كغنى وصحة بحيث يجد لذتها {ثم نزعناها} أي: سلبنا تلك النعمة {منه إنه ليؤس} أي: قنوط من رحمة الله تعالى لقلة صبره وعدم ثقته به {كفور} أي: جحود لنعمتنا عليه، وأمّا المسلم الذي يعتقد أنّ تلك النعمة من جود الله وفضله وإحسانه فإنه لا يحصل له اليأس بل يقول: لعله تعالى يردها عليّ بعد ذلك أحسن وأكمل وأفضل مما كانت.

{ولئن أذقناه} أي: الكافر {نعماء بعد ضرّاء مسته} كصحة بعد سقم وغنى بعد عدم، وفي اختلاف الفعلين وهما أذقناه ومسته من حيث الإسناد إليه تعالى في الأوّل وإلى الضرّاء في الثاني نكتة عظيمة وهي أنّ النعمة صادرة من الله تعالى تفضلاً منه لخبر: «ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى. قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا» . والضرر صادر من العبد كسباً؛ لأنه السبب فيه باجتلابه إياه بالمعاصي غالباً لقوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} (النساء، 79) ولا ينافي ذلك قوله تعالى: {قل كل من عند الله} (النساء، 78) فإن الكلّ منه إيجاداً، غير أنّ الحسنة إحسان وامتحان، والسيئة مجازاة وانتقام لخبر: «ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يعفو الله أكثر» . {ليقولنّ} أي: الذي أصابه الصحة والغنى {ذهب السيئات} أي: المصائب التي أصابتني {عني} ولم يتوقع زوالها ولا يشكر عليها {إنه لفرح} أي: فرح بطر {فخور} على الناس بما أذاقه الله تعالى من نعمائه، وقد شغله الفرح والفخر عن الشكر فبيّن سبحانه وتعالى في هذه الآية أنّ أحوال الدنيا غير باقية بل هي أبداً في التغير والزوال والتحوّل والانتقال، فإنّ الإنسان إمّا أن يتحوّل من النعمة إلى المحنة، ومن اللذات إلى الآفات كالقسم الأوّل، وإمّا أن يكون بالعكس من ذلك وهو أن ينتقل من المكروه إلى المحبوب كالقسم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015