للإيمان فرائض وشرائط وحدوداً وسنناً فمن استكملها فقد استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، ثم وصف الله تعالى المؤمنين الكاملين بصفة أخرى ثالثة، وهي الاتكال عليه بقوله تعالى: {وعلى ربهم يتوكلون} أي: يفوّضون جميع أمورهم إليه لا يرجون غيره، ولا يخافون سواه؛ لأنّ المؤمن إذا كان واثقاً بوعد الله تعالى ووعيده كان من المتوكلين عليه لا على غيره، وهذا الحال مرتبة عالية ودرجة شريفة، وهي أنّ الإنسان بحيث يصير لا يبقى له اعتماد في أمر من الأمور إلا على الله تعالى، وهذه الصفات الثلاث مرتبة على أحسن صفات الترتيب، فإنّ المرتبة الأولى هي الوجل عند ذكر الله، والمرتبة الثانية هي الانقياد لمقامات تكاليفه، والمرتبة الأخيرة الانقطاع بالكلية عما سوى الله والاعتماد بالكلية على فضل الله بل الغنى بالكلية عما سوى الله، ثم إنّ هذه المراتب الثلاث أحوال معتبرة في القلوب والبواطن، ثم انتقل منها إلى رعاية أحوال الظاهر فقال:
{الذين يقيمون الصلاة} أي: الذين يؤدّونها بحقوقها {ومما رزقناهم} أي: أعطيناهم {ينفقون} في طاعة الله؛ لأنّ رأس الطاعات المعتبرة في الظاهر ورئيسها بذل النفس في الصلاة، وبذل المال في مرضاة الله، ويدخل في ذلك صلاة الفرض والنفل والزكاة والصدقات والإنفاق في الجهاد والإنفاق على المساجد والقناطر، ثم قال تعالى:
{أولئك} أي: الموصوفون بهذه الصفات الخمسة {هم المؤمنون حقاً} لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل ومحاسن أفعال الجوارح التي المعيار عليها، وهي الصلاة والصدقة و {حقاً} مصدر مؤكد للجملة التي هي {أولئك هم المؤمنون} كقوله: هو عبد الله حقاً، أي: أحق ذلك حقاً.
تنبيه: اختلف العلماء في أنه هل للشخص أن يقول: أنا مؤمن حقاً، أو لا؟ فقال أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه: الأولى أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، ولا يقول: أنا مؤمن حقاً، وقال أصحاب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه: الأولى أن يقول: أنا مؤمن حقاً، ولا يجوز أن يقول: إن شاء الله تعالى، واستدل للأوّل بوجوه:
الأوّل أن قوله: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ليس على سبيل الشك، ولكن الشخص إذا قال: أنا مؤمن فقد مدح نفسه بأعظم المدائح فربما حصل له بذلك عجب، فإذا قال: إن شاء الله تعالى زال ذلك العجب، وحصل الانكسار له.
الثاني إنّ الله تعالى ذكر في أوّل الآية ما يدل على الحصر وهو قوله تعالى: {إنما المؤمنون هم} كذا وكذا وكلمة إنما تفيد الحصر، وذكر في آخر الآية قوله تعالى: {أولئك هم المؤمنون حقاً} وهذا أيضاً يفيد الحصر، فلما دلت هذه الآية على هذا المعنى، ثم إنّ الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس، فكان الأولى له أن يقول: إن شاء الله تعالى، وعن الحسن أنّ رجلاً سأله: أمؤمن أنت؟ فقال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب، فأنا مؤمن بها، وإن كنت تسألني عن قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} الآية فلا أدري أنا منهم أم لا؟ وقال سفيان الثورّي: من زعم أنه مؤمن حقاً عند الله، ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية، وهذا إلزام منه أي: كما لا نقطع أنه من أهل الجنة قطعاً، فلا نقطع