واختلف في الحبة فقيل: هي من هذا الحب المعروف تكون في بطن الأرض قبل أن تنبت، وقيل: هي الحبة التي تنبت في الصخرة التي في أسفل الأرض، واختلف في معنى الرطب واليابس فقال ابن عباس: الرطب: الماء، واليابس: البادية، وقال عطاء: يريد ما ينبت وما لا ينبت وقيل: المراد بالرطب: الحيّ، وباليابس: الميت، وقيل: هو عبارة عن كل شيء لأنّ جميع الأشياء إمّا رطبة وإمّا يابسة.
فإن قيل: جميع هذه الأشياء داخلة تحت قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} فلمَ أفرد هذه الأشياء بالذكر؟ أجيب: بأنه تعالى ذكرها أوّلاً مجملة ثم فصل بعضاً من ذلك الإجمال ليدل بها على غيرها وقوله تعالى: {إلا في كتابه مبين} فيه قولان: أحدهما: إنه علم الله الذي لا يغير ولا يبدل، والثاني: إنه اللوح المحفوظ لأنّ الله تعالى كتب فيه علم ما يكون وما قد كان قبل أن يخلق السموات والأرض فهو على الأوّل بدل من الاستثناء الأوّل بدل الكل وعلى الثاني بدل الاشتمال.
{وهو الذي يتوفاكم بالليل} أي: يقبض أرواحكم عند النوم {ويعلم ما جرحتم} أي: كسبتم {بالنهار ثم يبعثكم} أي: يوقظكم بردّ أرواحكم {فيه} أي: النهار.
فإن قيل: لِمَ خص الليل بالنوم والنهار بالكسب مع أنّ ذلك يقع في غير هذا؟ أجيب: بأنّ ذلك جرى على الغالب {ليقضي أجل مسمى} أي: ليبلغ المستيقظ آخر أجله المسمى له في الدنيا {ثم إليه مرجعكم} بالموت والبعث {ثم ينبئكم بما كنتم تعملون} فيجازيكم به.
{وهو القاهر} مستعلياً {فوق عباده} لأنّ من قهر شيئاً وغلبه فهو مستعل عليه أمّا قهره للمعدوم فبالتكوين والإيجاد وأمّا قهره للموجود فبالإفناء والإفساد بنقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة ومن الوجود إلى العدم أخرى ويقهر النور بالظلمة والظلمة بالنور والنهار بالليل والليل بالنهار إلى غير ذلك من ضروب الكائنات وصنوف الممكنات {ويرسل عليكم} من ملائكته {حفظة} أي: تحفظ أعمالكم وهم الكرام الكاتبون، وعن أبي حاتم السختياني أنه كان يكتب عن الأصمعي كل شيء تلفظ به من فوائد العلم حتى قال فيه: أنت شبيه الحفظة تكتب لفظ اللفظة فقال أبو حاتم: وهذا أيضاً مما يكتب.
فإن قيل: الله تعالى غني عن كتابة الملائكة فما فائدتها؟ أجيب: بأنّ فيها لطفاً للعباد لأنهم إذا علموا أنّ الله رقيب عليهم والملائكة موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد عن السوء {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا} أي: ملك الموت وأعوانه {وهم لا يفرّطون} أي: لا يقصرون فيما يؤمرون، وقيل: ملك الموت وحده فذكر الواحد بلفظ الجمع وجاء في الأخبار أنّ الله تعالى جعل الدنيا بين يدي الموت كالمائدة الصغيرة فيقبض من ههنا ومن ههنا فإذا كثرت عليه الأرواح يدعوها فتستجيب له.
فإن قيل: قال الله تعالى في آية أخرى {الله يتوفى الأنفس حين موتها} (الزمر، 42) وفي أخرى {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} (السجدة، 11) وقال هنا: {توفته رسلنا} فكيف الجمع؟ أجيب: بأن المتوفى في الحقيقة هو الله تعالى فإذا حضر أجل العبد أمر الله تعالى ملك الموت أن يقبض روحه ولملك الموت أعوان من الملائكة يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت بنفسه فحصل الجمع بين الآيات، وقال