قيل: قد قال تعالى فأكرمه فصحح إكرامه وأثبته ثم أنكر قوله: {ربي أكرمن} وذمّه عليه كما أنكر قوله: {أهانن} وذمه عليه؟ أجيب: بوجهين:
أحدهما: إنما أنكر قوله: {ربي أكرمن} وذمه عليه لأنه قاله على قصد خلاف ما صححه الله تعالى عليه وأثبته، وهو قصده على أن الله تعالى أعطاه ما أعطاه إكراماً مستحقاً ومستوجباً على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم كقوله: {إنما أوتيته على علم عندي} (القصص:78)
وإنما أعطاه الله تعالى على وجه التفضل من غير استحباب منه له، ولا سابقة مما لا يعتد الله تعالى إلا به، وهو التقوى دون الأنساب والأحساب التي كانوا يفتخرون بها ويرون استحقاق الكرامة من أجلها.
ثانيهما: أن ينساق الإنكار والذم إلى قوله: {ربي أهانن} يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله وإكرامه، وإذا لم يتفضل عليه يسمى ترك التفضل هواناً وليس بهوان. قال الزمخشري: ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله تعالى: {فأكرمه} وقرأ {ما ابتلاه} في الموضعين حمزة بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح، وقرأ {ربي أكرمن} {ربي أهانن} نافع بإثبات الياء فيهما وصلاً لا وقفاً، وقرأ البزي بإثباتها فيهما وقفاً ووصلاً، وعن أبي عمرو فيهما في الوصل الإثبات والحذف عنه في الوصل أعدل، والباقون بالحذف وقفاً ووصلاً. وقرأ ابن عامر {فقدّر عليه رزقه} بتشديد الدال والباقون بتخفيفها، وهما لغتان معناهما ضيق. وقيل: قدر بمعنى قتر وقدر أعطاه ما يكفيه.
ثم ردّ الله تعالى على من ظن أنّ سعة الرزق إكرام وأنّ الفقر إهانة بقوله تعالى:
{كلا} ، أي: ليس الإكرام بالغنى والإهانة بالفقر إنما هما بالإطاعة والمعصية، وكفار مكة لا ينتبهون لذلك {بل} لهم فعل أشر من هذا القول وهو أنهم {لا يكرمون اليتيم} ، أي: لا يحسنون إليه مع غناهم، أو لا يعطونه حقه من الميراث. قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون يتيماً في حجر أمية بن خلف فكان يدفعه فنزلت:
{ولا يحضون} ، أي: يحثون حثاً عظيماً {على طعام} ، أي: إطعام {المسكين} فيكون اسم مصدر بمعنى الإطعام، ويجوز أن يكون على حذف مضاف، أي: على بذل أو على إعطاء، وفي إضافته إليه إشارة إلى أنه شريك للغنيّ في ماله بقدر الزكاة.
{ويأكلون} على سبيل التجدد والاستمرار {التراث} ، أي: الميراث والتاء في التراث بدل من واو لأنه من الوراثة.
{أكلاً لماً} ، أي: ذا لم واللمّ الجمع الشديد. يقال: لممت الشيء لماً، أي: جمعته جمعاً. قال الحطيئة:
*إذا كان لما يتبع الذم ربه ... فلا قدس الرحمن تلك الطواحنا*
والجمع بين الحلال والحرام فإنهم كانوا يورثون النساء والصبيان ويأكلون انصباءهم ويأكلون ما جمعه المورث من حلال وحرام عالمين بذلك، فيلمون في الأكل بين حلاله وحرامه ويجوز أن يذمّ الوارث الذي ظفر بالمال مهلاً مهلاً من غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلاً واسعاً جامعاً بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه كما يفعل البطالون.
ولما دل على حب الدنيا بأمر خارجي دل عليه في الإنسان فقال تعالى:
{ويحبون} ، أي: على سبيل الاستمرار {المال} ، أي: هذا النوع من، أي: شيء كان وأكد بالمصدر والوصف فقال تعالى {حباً جماً} ، أي: كثيراً شديداً مع الحرص والشره ومنع الحقوق. وقوله تعالى:
{كلا} ردع لهم عن