وعقله، ومن النار غوايته وحدته، ومن الهواء حركته وتقلبه في محامده ومذامه، فالغالب في جبلته التراب، فلهذا نسب إليه، وإن خلق من العناصر الأربع، كما أنّ الجانّ خلق من العناصر الأربع لكن الغالب في جبلته النار فنسب إليها؛ كما قال تعالى: {وخلق الجانّ} أي: أبا الجنّ، وهو إبليس وقيل: هو أبوهم وليس هو بإبليس؛ وقيل: هو اسم جنس كالإنسان {من مارج من نار} وهو لهبها الخالص من الدخان؛ وقال القشيري: هو اللهب المختلط بسواد النار، فالنار أغلب عناصره. وقال الليث: المارج الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وعن ابن عباس: أنه اللهب الذي يعلو النار فيختلط بعضه ببعض أحمر وأصفر وأخضر وهو مشاهد في النار ترى الألوان الثلاثة مختلط بعضها ببعض؛ ونحوه عن مجاهد. وقال أبو عبيدة والحسن: المارج المختلط من النار وأصله من مرج إذا اضطرب واختلط قال القرطبي: يروى أنّ الله تعالى خلق نارين فمرج أحداهما بالأخرى فأكلت إحداهما الأخرى وهي نار السموم، فخلق منها إبليس.
تنبيه: {من مارج من نار} مَنْ الأولى لابتداء الغاية؛ وفي الثانية وجهان: أحدهما: أنها للبيان. والثاني: أنها للتبعيض.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} الناشئة عن مبدئكما ومربيكما وسيد كما {تكذبان} أي: مما أفاض عليكما في أطوار خلقتكما حتى صيركما أفضل المركبات وخلاصة الكائنات.
{رب} أي: خالق ومدبر {المشرقين} أي: مشرق الشتاء ومشرق الصيف {ورب المغربين} كذلك.
{فبأي آلاء} أي: نعم ربكما أي الذي دبر لكما هذا التدبير العظيم {تكذبان} أي: بما في ذلك من الفوائد التي لا تحصى كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل فيه إلى غير ذلك.
{مرج} أي: أرسل الرحمن {البحرين} أي: العذب والملح فجعلهما مضطربين من طبعهما الاضطراب حال كونهما {يلتقيان} أي: يتماسان على وجه الأرض بلا فصل بينهما في رؤية العين. وقال ابن عباس: بحر السماء وبحر الأرض. قال سعيد بن جبير: يلتقيان في كل عام. وقيل: يلتقي طرفاهما. وقال الحسن وقتادة: بحر فارس والروم. وقال ابن جريج: البحر المالح والأنهار العذبة. وقيل: بحر المشرق وبحر المغرب. وقيل: بحر اللؤلؤ وبحر المرجان.
{بينهما برزخ} أي حاجز عظيم فعلى القول بأنهما بحر السماء وبحر الأرض فالحاجز الذي بينهما هو ما بين السماء والأرض؛ قاله الضحاك وعلى الأقوال الباقية: قال الحسن وقتادة: هو الأرض. وقال بعضهم هو القدرة الإلهية وهذا أولى.
{لا يبغيان} اختلف فيه. فقال قتادة: لا يبغيان على الناس فيغرقانهم كما طغيا فأهلكا من على الأرض في أيام نوح عليه السلام، فجعل بينهما وبين الناس اليبس، وقال مجاهد وقتادة أيضاً: لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه. وقيل البرزخ ما بين الدنيا والآخرة أي: بينهما مدة قدّرها الله تعالى وهي مدّة الدنيا فهما لا يبغيان فإذا أذن الله تعالى في انقضاء الدنيا صار البحران شيئاً واحداً؛ وهو كقوله تعالى: {وإذا البحار فجرت} (الإنفطار: 3)
وقال سهل بن عبد الله: البحران طريق الخير والشرّ، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة، وقال الرازي: معنى الآية أنّ الله تعالى أرسل بعض البحرين إلى بعض ومن شأنهما الاختلاط، فحجزهما ببرزخ من قدرته فهما لا يبغيان أي لا يتجاوز كل واحد منهما ما حدّه له خالقه