موضعاً تقريراً للنعمة، وتأكيداً في التذكير، وفصل بين كل نعمتين بما ينبههم عليها ليفهمهم النعم، ويقرّرهم بها كما تقول لمن تتابع عليه إحسانك وهو يكفره وينكره: ألم تكن فقيراً فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملاً فعززتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن راجلاً فحملتك؟ أفتنكر هذا؟ والتكرير حسن في مثل هذا، قال القائل:
*كم نعمة كانت لكم كم كم وكم*
وقال آخر:
*لا تقتلي مسلماً إن كنت مسلمة ... إياك من دمه إياك إياك*
وقال آخر:
*لا تقطعنّ الصديق ما طرفت ... عيناك من قول كاشح أشر*
*ولا تملنّ يوماً زيارته ... زره وزره وزر وزر وزر*
وقال الحسن بن الفضل: التكرير طرد للغفلة، وتأكيد للحجة قال بعض العلماء: والتكرير ههنا كما تقدّم في قوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} (القمر: 17)
وكقوله تعالى: فيما سيأتي {ويل يومئذ للمكذبين} (المرسلات: 15)
وذهب جماعة منهم ابن قتيبة إلى أنّ التكرير لاختلاف النعم، فلذلك كرّر التوقيف مع كل واحدة.
وقال الرازي: وذكره بلفظ الخطاب على سبيل الالتفات، والمراد به التقرير والزجر وذكر لفظ الرب لأنه يشعر بالرحمة؛ قال: وكرّرت هذه اللفظة في هذه السورة نيفاً وثلاثين مرة: إما للتأكيد، ولا يعقل لخصوص العدد معنى. وقيل: الخطاب مع الأنس والجنّ والنعمة منحصرة في دفع المكروه، وتحصيل المقصود، وأعظم المكروهات: نار جهنم ولها سبعة أبواب، وأعظم المقاصد نعيم الجنة ولها ثمانية أبواب، فالمجموعة خمسة عشر وذلك بالنسبة للإنس والجنّ ثلاثون والزائد لبيان التأكيد. وروى جابر بن عبد الله قال: «قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال ما لي أراكم سكوتاً للجنّ كانوا أحسن منكم ردّاً ما قرأت عليهم هذه الآية من مرّة {فبأيّ آلاء ربكما تكذبان} إلا قالوا ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد» وقرأ ورش {فبأيّ آلاء} على أصله بالمدّ، والتوسط، والقصر جميع ما في هذه السورة.
ولما ذكر تعالى خلق العالم الكبير من السماء والأرض، وما فيهما من الدلالات على وحدانيته وقدرته ذكر خلق العالم الصغير فقال تعالى: {خلق الإنسان} أي: آدم عليه السلام {من صلصال} أي: من طين يابس له صلصلة أي صوت إذا نقر {كالفخار} أي كالخزف المصنوع المشوي بالنار، وقيل هو طين خلط برمل؛ وقيل: هو الطين المنتن من صل اللحم وأصل إذا أنتن.
تنبيه: قال تعالى: هنا.
من {صلصال كالفخار} وقال تعالى في الحجر: {من حما مسنون} وقال تعالى في الصافات: {من طين لازب} (الصافات: 11)
وقال تعالى في آل عمران {كمثل آدم خلقه من تراب} (آل عمران: 59)
وكله متفق المعنى وذلك أنه أخذه من تراب الأرض، فعجنه بالماء، فصار طيناً، ثم ترك حتى صار حمأ مسنوناً ثم منتناً ثم صوّره كما يصوّر الإبريق وغيره من الأواني، ثم أيبسه حتى صار في غاية الصلابة فصار كالخزف الذي إذا نقر صوت صوتاً، يعلم منه هل فيه عيب أو لا فالمذكور هنا آخر تخليقه وهو أنسب بالرحمانية وفي غيرها تارة مبدؤه وتارة أثناؤه فالأرض أمّه والماء أبوه ممزوجين بالهواء الحامل للجزء الذي هو من فيح جهنم؛ فمن التراب جسده ونفسه، ومن الماء روحه