فأما قولك إن في البلاد الإفرنجية خزائن كتب كثيرة. كأنك تقول أنه يوجد فيها من الكتب ما لا يوجد في بلادنا لأن نوّاب الدول لا يزالون يشترون من بلادنا أنفس الكتب. فهو ليس بدليل على وجود العلم عند وجود الكتب فأين حمل الأسفار هداك الله من العلم. لأن العلم في الصدور لا في السطور ولكن أفدني ما بال هؤلاء الأساتيذ لم يؤلفوا في اللغات الشرقية شيئاً قط. فغاية ما صنعوا إنما هو أحدهم ترجم من لغتنا لغة الأطيار والأزهار فخمن فيها وحدس ما شاء. وآخر ترجم محاورة يهودي وأحمق من التجار. وآخر مسخ أمثال لقمن الحكيم إلى الكلام الركيك المتعارف في الجزائر. وآخر تعنّى لطبع أقوال سخيفة من رعاع العامة في مصر والشام. وترك ما فيها من اللحن والفساد كما هو استذراعاً بقولة كذا رأيتها في الأصل. فيظن بذلك إنه تنصل من تبعة اللوم والتنفيذ. فما سبب هذا التهافت على ترجمة مثل هذه الكتب وطبع مثل هذه الأقوال من لغتنا إلى اللغة الفرنساوية سوى توحُّم ملفقيها على الانخراط فيسلك المؤلفين. ولمَ لم يتعن أحد منهم لترجمة شيء من الكتب الفرنساوية إلى العربية ليظهر براعته في هذه حالة كونه شيخ طلبتها وإمام آمّيها. على أن في اللغة الفرنساوية كتباً جليلة القدر في كل فن. وأعجب من ذلك إنه لم يخطر ببال أحد منهم قطّ أن يترجم نحو لغتهم إلى لغتنا. فهل من سبب آخر غير التحذّر من أن يعرّضوا أنفسهم للتحقيق والتنفيد والتحمير. فإن عبارة النحاة والمعرّبين لا بدّ من أن تكون محرّرة صحيحة ولا عذر لهم معها أن يقولوا كذا وجدناه في الأصل. ويا ليت شعري ما الفائدة في كون أحد هؤلاء الأساتيذ يؤلف كلاماً معلسطاً فاسداً في لغة أهل حلب ويسميه نحواً. ثم يذكر فيه انجق بيكفي وايشلون كيفك خيّو وهلكتاب وقوي طيب. وفي كون آخر يكتب بلسان أهل الجزائر كان في واحد الدار طوبات بالزاف الطوبات كشافوا وكيناكل وراهي وانتينا وانتيَّا ونقجم وخّمم باش وواسيت شغل المهابل ويوالم أي يلائم وماجي أي جاء وكلي أي كأنه وحرامي أي بستاني والستاش أي السادس والدجاجة ترجع تولّد زوج عظمات وما أشبه ذلك من المشّو. فما بالكم يا أساتيذ لا تؤلفون كتباً بكلامكم الفاسد الذي تسمونه بنّوى. وهل تشيرون على عربيّ أقام بمرسيلية مثلاً أن يتعلم كلام أهلها أو كلام أهل باريس. ولو كان فعلكم هذا فعل رشيد لوجب أن تقيدوا جميع الاختلافات والفروق الموجودة عند المتكلمين بالعربية. فإن أهل الشام يستعلمون ألفاظاً لا يستعملها أهل مصر. وقس على ذلك سائر البلاد الإسلامية. بل أن لأهل صقع واحد اصطلاحات شتى. فكلام أهل بيروت مثلاً مخالف لكلام أهل جبل لبنان. وكلام هؤلاء مخالف لكلام أهل دمشق. وذلك يفضي بكم إلى هوس وإلى إفساد هذه اللغة الشريفة التي من بعض خصائصها إنها بقيت ثابتة القواعد قارّة الأساليب على انقراض جميع ما عداها من اللغات القديمة. وإن المؤلفين فيها يومنا هذا لا يقصرون عن أسلافهم الذين انقرضوا مذ ألف ومايتي سنة. فهل حسدتمونا على ذلك وحاولتم أن تحيلوها وتلحقوها بلغتكم التي لا تفهمون ما ألف فيها مذ ثلاثمائة سنة. ويا ليت شعري هل تأذن أرباب السياسة عندكم لرجل أراد أن يفتح مكتباً يعلم فيه الصبيان في أن يتعاطى ذلك من دون أن يُمتحن اوّلاً. فمن الذي امتحنكم أنتم ووجدكم أهلاً لهذه الرتبة التي هي أرفع من رتبة معلم كتَّاب ومن ذا الذي عارض ما ترجمتم ولفّقتم ورمقَّتم بالمترجم منه. وكيف رُخصَّ لكم في أن تطبعوا ذلك من دون الوقوف على صحته. ولعمري أن مدرساً لا يحسن أن يكتب سطراً واحداً صحيحاً باللغة التي يعلّمها لجدير بأن يرجع إلى المكتب من ذي أنف. على أن من هؤلاء الأساتيذ من لا يفهم إذا خوطب فضلاً عن جهل التأليف. ولا يفهم إذا قرأ. ولا يقوّم الألفاظ في القراءة وقد سمعت مرة بعض التلاميذ يقرأ على شيخه في مقامات الحريري ولا يكاد ينطق بحرف واحد نطقاً بيّناً من هذه الحروف التي خلت منها لغتهم. وهي الثاء والحاء والخاء والذال والصاد والضاد والطا والظا والعين والغين والقاف والهاء. وشيخه ساكت لما أنه يعلم أن تصحيحه له لا يكون إلا فاسداً. فكيف يمكن لمن لم يسمع اللغة من أهلها أن يحسن النطق بها. كيف لا وأن من ألف منهم في نحو لغتنا شيئاً فإنما بنى نحوه كله على فساد. فإنهم يترجمون عن الجيم بلساننا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015