وهناك أسباب أخرى كثيرة للفساد في الديار. وذلك أنه لما كانت جميع الأشغال في باريس تديرها النساء وكان منهن غسالات وخدامات لهن يأخذن ثياب السكان وخياطات وفرّاشات وبياعات للمأكول والمشروب والملبوس، أمكن الرجل أن يصاحب واحدة منهن فتأتيه مياومة إذا شاء بججة إنها تقضيه شيئاً أو تبيع له حاجة أو ملايلة أو مشاهرة أو مساوعة أو محاينة وذلك ممنوع في لندرة. بل ربما صاحب الرجل امرأة من نفس الدار التي يسكنها. لآن ديار هذه المدينة العامرة لما كانت تشتمل على عدة طبقات وكان أصغرها يحوي في الأقل عشرين ما بين رجال ونساء. أمكن للرجل أن يعاشر إحدى جارته. بل المتزوجون المقيمون في هذه الديار لا يأمنون على نسائهم وبناتهم لأن الرجل إذا خرج من بيته وخالفه فيه جاره إلى زوجته مائة مرة في اليوم لم يمكنه أن يعلم ذلك لقرب ما بين المسكين. ولهذا كان أهل باريس أقلّ غيرة على نسائهم من جميع الناس. لأنهم ربوا على هذا ولا مناص لهم منه. ولا يمكنهم أن يربوا أطفالهم عندهم خوفاً من تضجر الجيران منهم. وإنما يبعثونهم إلى الريف من أول أسبوع ميلادهم فيربون في أحجار المراضع وهي عادة حميدة من جهة أن الأطفال يتقوّون هناك بطيب الهواء. وهناك سبب آخر أن المُطفل بترشيحها ولدها وتربيته تخسر من نفع حرفتها أكثر مما تعطيه للظئر لأن نساء باريس يباشرون الحرف ولا يرين في التكسب عاراً بأي وجه كان. وهن في البيع والشراء أشط من الرجال ومن تكن جميلة تتقاضَ على النظر إلى جمالها شيئاً زائداً على الثمن. ثم أن حالة الرجال مع النساء على المنوال الذي ذكرناه تعد عند هؤلاء الناس من المصالح المهمة المرتبة المطردة. بمعنى أنه ليس من دار إلاّ ويحصل فيها وصال بين الرجال والنساء مع مراعاة حرمة كل من الزائر والمزور. ومع عدم الإخلال بالوقت الموقوت لكيلا يحصل تعطيل للمزور في شغله. ومع مجانبة ما يسوء الجيران من لغط وعربدة. ولا تكاد ترى في باريس كلها فقيرة أو مومسة تطوف في الليل وهي سكرى كما ترى في لندرة. وندر وجود إحداهنَّ في متأخر الليل. وقلّ من آذت زائرها أو قاصدها.
وهناك فرق آخر بين نساء الفرنسيس والإنكليز من جهة الخُلق لا الخَلق فالظاهر من نساء الإنكليز في الغالب الكِبر والأنَفَة والصُلف. والظاهر من نساء الفرنسيس اللين والبشاشة. إلا أن نساء الإنكليز لا يتدللن على الرجال ولا يجشمنهم الترف والتحف والولائم والملاهي والمنازه والفرج. فأكلة من الكباب وكرعة من المزر تكفيان في استجلاب رضاهن. وليس عندهن من الورم والمحال. والخلب والاختتال. والدها والنكر والاحتيال ما عند نساء باريس. فإما أن تحب إحداهن مثلا وترضى معه بالكثير والقليل وأما أن تصرمه. فأما نساء باريس فمهما يظهر منهن من الملاينة والمباغمة، والملاطفة والملاءمة. فإذا عاشرت واحدة منهن وشعرَتْ بأنك ارتبقت في هواها ورُقبت تبغنجت عليك وتدللت. وتصلّفت وتمحّلت. وأوهمتك أن مجرد كلامها معك منّة. وأن إرضاءها والخضوع لها سنة وإن كثيراُ في عشقها متيمون ناحلون هائمون ناسمون. حتى تستقل عليها كل كثير من الصلات والهدايا فتقبل منك ما تقبل وأنت لها من الشاكرين. وإذا دعوتها لوليمة فلا بد من إروائها من الرحيق المختوم. وتوحيمها بأفخر المطعوم. فتلتهم ما تلتهم وتشتفّ ما تشتف وهي متشبعة متعففة. متمنعة متظرفة. فإذا ضحكت حسبت أن ليس لضحكها من نظير. وإذا مشت ودت لو كان خطوها على الديباج والحرير. حتى إن هذا التصلف أيضاً صفة ملازمة للمتزوجات. فإن المرأة المتزوجة في باريس تغرّم زوجها على كسوتها فقط ما ينفقه المتزوج من الإنكليز على جميع أهله. فدأب الرجل في باريس وهمه وشغله إرضاء زوجته وهيهات أن ترضى وما أحسن ما قيل في هذا المعنى:
لا يعجب الزوج إلا أن تكون بمن ... تحب محفوفة أولا فاعنات
وكيف يرضى أمرء يحمي حقيقته ... بالقِرن والقَرن أفتوا بها النات
وقال
وداخلة الإنسان تفسد كلها ... إذا أصبحت زوج له أم خارجه
ويخرج عنه الحلم لو قيل مرة ... له هي في البيت الفلاني والِجَه