ولهذا يقال في المثل السائر عند الفرنساوية أن باريس نعيم النساء ومطهر الرجال وجحيم الخيل. ولما كانت حالة الرجال مع النساء هكذا كان ثلاثة أرباع سكان باريس مسافحين. ونصف الربع الأخير متزوجين زواجاً شرعياً والباقي منقطعون عن النكاح. كذا أخبرني من يوثق بكلامه. ثم أن المومسة من الإنكليز تعرف نفسها أنها حرة أيضاً أن الناس يعرفونها كذلك. فلا تكلفهم احترامها. ولا تسومهم إعظامها. فإما البغي من الفرنسيس فعندها إن مجرد استبضاعها للبضع يؤهلها لأن يكرمها الناس ويداروها. ويجلوها ويسانوها. وذلك لعدم استغنائهم عنها. وجرّهم النفع منها. وقد تقدم أن الفرنساوية لا يفرقون بين الحرة والبغي وبقي هنا أن نقول أنهم أشد الناس شبقاً إلى البعال. وأقرمهم إلى السفاح. وناهيك إنهم في الفتنة الكبيرة التي حدثت في سنة 1793 أقاموا امرأة عريانة على مذبح إحدى الكنائس وسجدوا لها. فصوّر لخاطرك أيها القارئ كيف تكون الرجال والنساء في هذه المدينة في ليالي الشتاء البارد الطويلة وكم من ملهى يغص بهم وبهن وكم من مآب. وكم من مائدة تميد لهم بالطعام والشراب. وكم من سرر تهتزّ. ومضاجع تأزّ. وأجناب تلزّ. وأوطاب تمزّ. وأوتار تنزّ. أنشدني الفارياق لنفسه في وصف باريس وأجازني روايته:
وفي باريس لذات كما في ... جنان الخلد جير وحور عين
ولكن شأنهن دوام طمث ... لكل أربعون من القرين
وقال في الراقصات
لله در الراقصات لنا على ... نغم المثاني حيث تجلى الكوب
لو كان يوماً وطؤهن عليّ لم ... تثقل لديَّ من الزمان خطوب
وقال في رامج
ذي الباريزية طلعتها ... كالصبح بها قلبي مغرم
في الليل أربد تحيتها ... فأقول لها بُن جُوْر مادم
قال وكما أن الغريب المسكين ينشرح صدره وينجلي بصره بمشاهدة تلكم الحكاكات للأعتاب في لندرة على الصفة التي تقدم ذكرها. كذلك تقر عينه أمثالهن في باريس طائفات في الشوارع والأسواق من دون غطاء على رؤوسهن ولا ساتر لخصورهن وما يليها. بخلاف عادة النساء في لندرة فإنهن لا يخرجن إلا ملتحفات. قال وعندي إن هاتين الخلتين وهما حك الأعتاب والخروج من دون التحاف هما السبب في قلة وجود العميان في هاتين المدينتين السعيدتين. وقلما ترى في رجالها احول أو أزور أو أحوص أو أخوص أو أرمص أو أكمس أو أعشى أو أخفش أو أعفش أو أعمش أو أعبش أو أغمش أو أرمش أو امتش أو ذادوش أو مدش أو طخش أوغطش أو غفش أو طفنشئاً أو غطمَّشاً أو مغطرشاً. أو مطغمشاً أو مطرفشاً أو مطفرفشاً أو مطنفشاً أو مدنفشاً أو مدنقشاً. فعلى كل من كان في بلادنا أعمش ذا عين أن يقصد هذه البلاد ليجلو بصره بهذه المناظر الأنيقة. وليستصحب معه أيضاً لهذه الجلاء جلاء أي لقباً يبني عن شرف وسيادة. فإن القوم يعظمون هذه الزنمة ولا يرون للإنسان فضلاً بغيرها. وعلى فرض تحرجه من الانتحال والتزوير فإن غناه يكسبه إياها من عندهم. لأنه متى كان غنياً وجعل دأبة أن يتردد على مواضع اللهو والحظ لم يلبث ان يتعرف بزمرة من الكبراء السعداء وإن يزورهم في مغانيهم. وحٍ يسمونه بسمة شرف تشريفاً له وتشرّفاً به إذ لا يزورهم إلا الشريف مثلهم. فأما حرص النساء على هذه الزنمة وخصوصاً نساء الإنكليز فهو أوسع من أن يحصر في هذا الكتاب.
ثم رام الفارياق أن يستأجر شقة دار يسكنها هو وأهله فرأوا عدة أماكن لم تخل من عيوب. وكانت الفارياق في خلال ذلك تتمعص من ارتقاء الدرج فإن بعضها كان يشتمل على مائة وعشرين درجة فأكثر. حتى إذا تبوءوا محلاّ وجدوا موقده رديئاً. فلم يمض على ذلك أيام حتى طفقت تشكو وتقول: