وكان الفارياق ممن أذاقه الله حلواء البنين ثم تجرع مع ذلك مرارة الثكل. فقد كان له ولد بلغ سنتين وكأنه قد سبك في قالب الحسن والجمال فجاء لم يَعْدُه شيء مما تقر به العين. وكان على صغر سنه ينظر نظر المميز بين المؤنس والموحش ويألف من تملق له ولو بإشارة. فكان أبوه إذا رنا إليه ينسى في الحال جميع أشجانه وهمومه. ولكن لم يلبث أن يغشاه عارض من الكآبة إذا كان يوجس إنه لا يدوم له على عين الدهر اللامّة. ويرى نفسه إنه غير جدير بأن يتملى بتلك الطلعة الناضرة. وكان يحمله على ساعديه مسافة ساعة وهو يناغيه ويغني له. حتى ألفه الطفل بحيث لم يعد يشأ أن أحداً غيره يحمله أو يلهيه أو أنه يأكل وحده على انفراد. إلى أن قدر الله ربّ الموت والحياة أن أخذ الصبيّ سعال في تلك القرية. ولما كانت قرى الإنكليز الصغيرة كغيرها من قرى البلاد من أنه لا يوجد فيها أطباء مهرة وكان لا بدّ من مشاور طبيب على أية صفة كان، أستشار أبواه أحد المتطببين هناك. فأشار عليهما بأن يتداركاه بالاستحمام بالماء الساخن إلا رأسه. فعملا بوصيته أياماً. ولم يزدد الصبي إلا سقاماً. حتى كان إذا أنزل في الماء بعدها يُغشى عليه ويُرى فوق قلبه لطخة حمراء كالدم على شكل القلب. ثم أشتد بع الداء حتى أحتبس السعال في صدره وخفت صوته. وكان يعاوده مع ذلك الرعدة والهزة. وبقي في حالة النزع ستة أيام بلياليها وهو يئن أنيناً ضعيفاً وينظر إلى والديه كالشاكي لهما مما يقاسيه. استحال الورد من خديه عبهراً. وغارت عيناه النجلاوان. ولم يعد شيء من الغذاء والدواء يسوغ في حلقه إلاّ تكلفاً. وكان الفارياق في خلال ذلك يذرف العبرات ويجأر بالدعاء إلى الله ويقول: ربّ اصرف هذا العذاب عن ابني أليّ إن كان ذلك يرضيك. أنني لا مأربَ لي في الحياة من بعده ولا طاقة لي على مشاهدته في هذا النزع الأليم. فأمِتْني قبله ولو بساعة حتى لا أراه يجود بنفسه. آه عظمت ساعةً. وأن كان لا بدّ من نفوذ قضائك به فتوفّه الآن ولعل الفارياق هو أول والد دعا على ابنه بالموت عن شفق وحنوّ. فإن رؤية الطفل يغرغر ستة أيام مما لا يطاق. وبعد أن تُوفيّ الولد، وأبقى في قلوب والديه الحسرة والكمد، استوحشا من مقامهما إذ كان كل شيء فيه يذكرهما فقده ويزيد في لوعتهما. ففصلا منه إلى لندرة على حين غفلة وقد وضعاه في صندوق فلما دفناه واستقرا في منزل قال أبوه يرثيه:
الدمع بعدكما ذكرتك جارِ ... والذكر ما وأراك تربُ وارِ
يا راحلاً عن مهجة غادرتها ... تصلي من الحسرات كل أوار
خطأ وهمتُ فأين بعدك مهجتي ... ما في حشاي سوى لهيب النار
رَمَقاً أقل الجسم مني فادحاً ... فكأنه وقر من الأوقار
ما كان ضرّ الدهر لو أبقاك لي ... عيناً على الآثار والأذكار
ما بعد فقدك رائعي أو رائقي ... شيء من الظلمات والأنوار
سيان أن جنّ الظلام عليّ أو ... طلع الصباح وأنت عني سار
يا بئس ذاك الليل إذ لم يبق لي ... من مطمع فيه إلى الأسحار
أرّقتني من قبله ستّاً وفيه ... حُرمْت خمسي واستطبت شعاري
أبُني ما يجدي التصبر قولهم ... حكم المنية في البرية جار
كلا ولا بي قرّ بعدك من حمى ... ما هذه الدنيا بدار قرار
كم قد حملتك فوق راحي إذ غدو ... تورحت ثُمت حُرْتُ خير محار
ولكم سهرت الليل من جزع فما ... أغنى بكاي عليك أو أسهاري
ولكم جأرت لبرء دائك ضارعاً ... ولغير نفع كان طول جؤاري
ولكم حضنتك في الحنادس خوف أن ... يطرأ عليك من الحوادث طاري
وجمال وجهك لي يخيل أنني ... في روضة أنف ضحاء نهار
أن لم يصورك المصور لي فقد ... صُوّرت بالمأثور من أشعاري
أو أن يكن وأراك لحد ضيق ... فالأرض عندي اليوم أضيق دار
أو أن تكن عني حجبت فإنما ... بقيتْ حلال خوالج الأفكار
لا أنسينك أو أحين فما أتى ... حين عليّ خلا من استذكار
ولا رثينك ما بقيت وأن أمُت ... فليتلون رثاك عني القاري
يا حسرة عدم التبصر بعدها ... عدم التبصر في احتمال خساري
كثر المعاين لي وقل معاوني ... وكوت حشاي شماتة الزوار