قد غُرس في طبع كل والد أن يحب ولده كلهم على كثرتهم وبرقحتم وعيوبهم وإن يراهم أحسن الناس. وأن يحسد كل من يفوقه في المحامد والمكارم إلا أباه وابنه. ومتى شاخ الرجل وضعف عن التمتع بلذات الدنيا فحسبه أن يرى ابنه متمتعاً بها. ولا لذة للمتزوج اعظم من أن يبيت مع امرأته على فراش واحد وبينهما ولد صغير لا يؤرقه ببكائه وصراخه ولا يبلّه ببلبله. كما إنه لا شيء أوجع لقلبه من أن يراه مريضاً غير قادر على الشكوى بلسانه ليعلم ما ينبغي أن يداوى به. بل الأطباء أنفسهم يحارون في مداواة الأطفال وقلما يصيبون الغرض. وكان الأولى أن يعيّن لعلاجهم أطباء اختصوا بمزاولة ذلك عهداً طويلاً. وأن ينوَّه بمن نبغ منهم فيه كل كلام مستطر ومطبوع. ويجب على الوالد أول ما يرى ولده قد مرض أن يتعهده ويراعي أحواله وما يطرأ عليه ويقيد ذلك في كتاب ليخبر الطبيب به أخباراً مبيناً. فربما أغنى ذلك عن كثير من الدواء الذي يجازف به الأطباء أحياناً لامتحان حال المريض. ومن أهم ما يستنهض عناية الوالدين في حق ولدهما أمر الطعام. لأن الطفل لما كان لا يدري حدّ الشبع الذي يقف عنده الراشد كان أكثر أسباب مرضه من الأكل. فليس من الحنّو والشفقة أن تطعم الأم ولدها كل ما يشتهيه. وإنما الأولى أن يلهّى عنه أشياء من اللعب والصور المنقشة والآلات المزوقة وما أشبه ذلك. وما أحلى الولد يطلب شيئاً من أبيه وقد حمّر الخجل وجنته أو غض الوجل طرفه. وما أحبّه وهو مطوق عنق والده أو والدته بيديه اللطيفتين ويقول إني أريد هذا الشيء لآكله. ومن سوء التدبير أيضاً أن يحرم ما يشتهيه. ويبكي لأجل ما لا ضرر فيه. ولعمري أن من أغفل رضى ابنه حتى أبكاه وأجرى دموعه لغير تأديب كان بمعزل عن الأبوة. وينبغي أن يدرّب الطفل على الخفيف من الطعام بعد ولادته بستة أشهر مع بقاء الإرضاع قليلاً. فإن الطعام يغذّيه ويقوّيه فضلاً عن أنه يحفظ صحة والدته. بل ربما مناها طول إرضاعها إياه بمرض ولم يفده شيئاً كما هو مذهب الإفرنج وهم أكثر الناس ذرّية. ولا ينبغي أن ترضعه وهي غضبى أو مذعورة أو مضطربة أو مريضة.

ثم إنه ما دام الرجل عزباً أو كان لم يربّ قط لم يشعر حق الشعور بالحنو على أولاد غيره. بل لم يقدر والديه اللذين ربّياه حق قدرهما إلا بعد أن يصير هو والداً مربّياً. والأمّهات اللائي يرضعن أولادهن يكن بالضرورة أحنّ فؤاداً عليهم من اللائي يستأجرن لهم المراضع. ولا جرم أن من كان له ولدا وقرأ قول الشاعر. وربّ أمّ وطفل حيل بينهما كما تفرّق أرواح وأبدان. لم يتمالك أن يذرف الدمع لوعة وتحسّراً. وكذا لو قرأ قصصاً فيها فجع الآباء بقتل أولادهم الصغار الأبرياء كقتل أطفال مدين بأمر موسى على ما ذكر في الفصل الحادي والثلاثين من سفر العدد سواء كان أبوا الطفل مؤمنين أو كافرين. ومن لم يكن قد تحلى بصفة الأبوة كالراهب وأمثاله ودعاك: يا بُني أو يا ولدي فلا تثق بكلامه ولا تعول على دعائه لأنه لا يعلم معزة البنوّة إلا من كان ذا أبوة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015