ومن أين يأتيهم العلم وهم ملازمون للكدّ والترقح وليس عندهم مدارس. قد كنت أظن إنهم جميعاً يحسنون القراءة والكتابة فإذا هم لا يحسنون النطق بلغتهم. فإني أقرأ في الكتاب شيئاً واسمعه منهم مخالفاً لحقيقة استعماله. وناهيك أن أكثرهم لا يعرف اسم بلادنا ولا جنسنا. وقد قيل لأحدهم مرّة أن الملك أمر بتسفير خيل في سفن لحرب العدو. فقال أني اعجب كيف يقاتل الناس في البحر على الخيل. وكأني بهم لجلهم يحسبون أن سكان الأرض بأسرها دونهم. أو يظنون أن الرجال في غير البلاد يبيعون نساءهم أو يأكلونهن أكلاً. أو إنهم يتقوتون بالجذور والبقول. ولو إنهم عرفوا أحوال الأمم وخصائص البلدان لعلموا إنه لو كان لهم من لذات العيش أضعاف مالنا مع شدة بردهم ومنكر هوائهم ودكنة جوهم لما وفي ذلك لهم. وإن غناء الصنعة عندهم لا يقوم مقام غناء الطبيعة عندنا من طبيب الهواء والماء وصفاء الجو وزكاء الأرض وعذورها ومراءتها ولذة المطعوم والمشروب والتنزه في الرياض والحدائق. والأكل عند المياه الجارية تحت الأشجار الناضرة والتردد على الحمامات والسهر في السمر واستماع آلات الطرب. يعرف ذلك منهم من زار بلادنا وألف حظنا ونعيمنا. غير أن اللبيب من استخرج من كل ضر نفعاً، وأعتبر بكل ما جرى عليه فاستفاد وارعوى.
قد تعلمت الآن مما لقيت من الوحشة في بلادهم كيف أعيش في بلادنا أن رجعت إليها سالمة. وكيف أن الطخطخة والقرقرة والهزر والكركرة والتجلق والهرهرة والأغراب والكدكدة والآهى والهزرقة والأنزاق والزغربة وطيخ طيخ وعيط عيط وتغ تغ وهاه هاه لأفْرج للهم عن القلب من أواني موضونة ومباني مرصونة. فخير البلاد ما ألفت هواءها وألفيت فيها مخلصاً لك ودّه. وكيف يكون خلوص الود من دون كشف السرائر. وكيف تنكشف السرائر وتعلن الضمائر من دون إطلاق اللسان في ميدان الكلام. والقوم هنا يتكتمون ويرون أن في ذكر الإنسان ما يحس به وما يحبه وما يكرهه طيشاً وهوجاً. إنما مثلي كمثل الثعلب الذي كان يسمع لطبل تضربه أغصان شجرة صوتاً عظيماً. فلما أتاه وعالجه حتى شقه وجده فارغاً. لا جرم لا عدت أملك خاطري سمعي. أو كراكب البحر وهو ظمآن يرى الماء حوله ولا يمكن أن يروي غليله منه. إني أرى وجه الأرض هنا أخضر ولكن لا شيء من هذه الخضرة يبيّض الوجه عند الأكل. إذ ما به من الطعب شيء لأن كل ما ينبت عندهم فإنما تغصب الأرض تنبيته غصباً من إفراط التدميل. فلو كان أحد هنا من اللاطة لسألناه عن طعم بقولهم ما هو. هذا ما عدا خلطهم المأكول والمشروب وغشهم وإفسادهم ما من الله تعالى به عليهم سائغاً طيباً. وناهيك أن الخبز الذي هو قوام هذا البدن لا طعم له. فإنهم يخمرونه برغوة نبات ويخلطونه بهذه البطاطا ثم يخفقونه بعد الاختمار خفقاً. فماذا يفيد القائل قوله إني كنت في بلاد الإفرنج وهو لم يجد فيها إلا الوحشة والنكد. بل ذكر ذلك له فيما بعد غصّة. إلى مصر إلى الشام. إلى تونس ذا العام. فهناك تلقى من يزورك أو تزوره. وهناك تلقى البشر دون تصلُّف والفضل دون توقف وتكلف. إلى آخر ما ذكرت لي من التأنف والتأفف. لا يطيب العيش للإنسان إلا إذا كان يتكلم بلغته. ليس العيش بطول الليالي ولا بكثرة الأيام ولا برؤية أرض خضراء ولا بمشاهدة أدوات وآلات. وإنما باغتنام أنس الأحباب. وعشرة ذوي الآداب الذين تصفو منهم السرائر في الحضرة والغياب. وتخلص لك مودتهم في الابتعاد والاقتراب. إنما الدنيا مفاكهة. قال فقلت ومناكهة. قالت ومنادمة قات ومشامة. قالت وملاءمة. قلت ومطاعمة. قالت وملاينة. قلت وملاسنة. قالت ومطايبة. قلت ومراضبة. قالت ومخادنة. قلت ومحاضنة. قالت ومراءمة. قلت ومفاغمة. قالت وملاطفة. قلت وملاغفة. قالت ومخالقة. قلت ومعانقة. قالت ومحاضرة. قلت ومحاصرة. قالت ومباغمة. قلت ومكاعمة. قالت ومعاشرة. قلت ومشاعرة. قالت ومؤانسة. قلت وملامسة. قالت ومساجلة. قلت ومباعله. قالت ومخالطة. قلت ومخارطة. قالت ومطارحة. قلت ومشارحة. قالت ومجارزه. قلت ومراهزة. قالت ومداعبة. قلت ومزاعبة. وهنا كان ختام الملاعبة.