نعم لا ينكر أن وجود الغني والفقير في الدنيا لا بدّ منه كوجود الجميل والقبيح. ولولا ذلك لوقف الكون عن الحركة وتعطلت المصالح كما أفاده المتكلمون. إلا أن الكلام هنا في الفقر الذي لا يقال فيه أنه عيش مؤدّ إلى الشره والبطر. لا في الفقر المدقع الذي يلقي الهموم والأحزان الدائمة في قلب صاحبه. فيفضي به مرة إلى الانتحار ومرة إلى الإغراق أو الخنق كما شاع فعل ذلك في هذه البلاد. أليس من العار على الرجال في هذه الأرض ارض العلوم والصنائع والتمدن والتحضر انهم لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان عندها الجهازان. وأقبح من ذلك أن الكبراء هنا لا يتزوجون عن حب بل عن طمع في زيادة المال. فإن من كان دخله مثلاً مائة دينار في كل يوم يريد أن يتزوج من دخلها مائة دينار أيضاً تماماً. ولو كان تسعة وتسعين لم يصح. ولذلك فكثيراً ما ترى شاباً جميلاً قد تزوج نصفاً شوهاء. وهيهات فإن الرجال هنا أكثرهم مصاييف. أي لا يتزوجون إلا إذا دخلوا في حّيز الكهول فيقضون شبابهم في السفاح ومن حدّ الثلاثين والأربعين في البحث عمن عندها جدة وغنى. وتبقى الجميلة الفقيرة كاسدة وما عليهم من الاصافة من عار. مع مراعاة الولد في حق الزوجية من اعظم الأسباب الباعثة على الزواج على ما ذهب إليه الربانيون. وإن يكن توزيع الولد يتمّ بمرة واحدة في مدة تسعة أشهر. أعني أن أولاد النصف الشوهاء لا يأتون صباحاً أصحاء كأولاد الفتيّة الجميلة. وفضلاً عن ذلك من تزوج وهو في سن الثلاثين سنة مثلاً امرأة في سن ثماني عشرة فمتى بلغ الخمسين وكانت امرأته بعد لفوتاً متلعجة كان له من ولده رقيب عليها. فلأي شيء زيادة المال لمن أغناه الله بفضله. ومن يكن له في كل يوم مائة دينار فما الفرق بينه وبين من له خمسون أو عشرون. فإن من لم يكتف بهذا القدر لم يكفه ملء الأرض ذهباً. هذا وإن المرأة إذا كانت غنية فلا بدّ وأن يتبع غناها عناء. لأنها تتعمدّ حٍ الولائم والمآدب والمحافل وأن تزور وأن تزار. وأن تتخذ لها من الخدام من تقر عينها بترارته وبضاضته.. وكلما اختلج منها عضو تمارضت وتوحمت على السفر أو الأرافة. وهناك حالة كون زوجها فائر الدماغ بالأمور السياسية أو البواعث المالية ي مقره تخلو بمن تخلو وتلهو بمن تلهو. وبيد خادمها من الدينار ما يعمي عينيه ويصمّ أذنه ويقطع لسانه. أليس هؤلاء الأغنياء يُمنون بالأمراض والأدواء كالفقراء. أليس الموت يفاجئهم وهم في غمرة لذاتهم منهمكون. وإن كثيراً منهم لسرفهم ورغبتهم ونهمهم وفسادهم واستهتارهم في الشهوات يموت عن غير ولد. أو أنه إذا رزق ولداً يعيش ما عاش ضاوياً نحيفاً شقوة له وكمدا على أبويه. وقد قال أحد مؤلفيهم أن من ترى من أولاد الأعيان والأمراء هنا تاراً قوياً فإنما هو من إِلقاح بعض الحثم. وترى أولاد الفلاحين صباحاً أقوياء الرطب واليابس. ولعمري لو لم يكن لهم هذا الجزاء من الله تعالى أي رؤية أولادهم حولهم معافين محببين لكانوا في عداد الموتى.
كيف بُني هذا العالم على الفساد. كيف يشقى فيه ألف رجل بل ألفان ليسعد رجل واحد. وأي رجل. فقد يكون له قلب ولا رحمة. ويدان ولا عمل. ورأس ولا رشد ولا نهية. وكيف يقع هذا في البلاد التي ضربت بعدلها الأمثال. لا جرم أن فلاح بلادنا اسعد من هؤلاء الناس بل التجار هنا أشقياء على غناهم وثروتهم. فإن أحدهم يقضي النهار كله وهزيعاً من الليل واقفاً على قدميه. وقد سألت واحداً مرة فقلت له لم لا تقعد على كرسي وعندك كراسي كثيرة. فقال لي أنها للذين يشرفوننا بالزيارة ليشتروا من عندنا. فإذا قعدت مثلهم صرت منهم. فأما في يوم الأحد فيلبثون خدري الأبدان والأفكار. سدري البصائر والأبصار فأين هذا من التاجر عندنا يعقف إحدى رجليه على الأخرى بعض ساعات على أريكته. ثم إِذا حان العصر كبّب جبته وراءه وذهب إلى بعض المنازه وهو يمشي الخيلاء. فإن كان التمدن والعلم قد سبب هذا فالجهل إذاً سعادة. غير أن الفلاحين هنا في غاية الجهل زيادة على بؤسهم.