ومع ذلك فإذا دخلت قصور الملوك وطفت في أسواق المدن وعاينت ما فيها من الصنائع البديعة والتحف العجيبة والآلات الظريفة والفرش النفيس والثياب الفاخرة والأواني المحكمة ولا سيما مدينة لندن، علمت أن صناعها هم القائمون بالدنيا وهم منها محرمون فإن دأب الصانع كدأب الفلاح من جهة إنه يشقى ويكدّ النهار كله ولاحظ له في الليل سوى إغماض عينيه. فكيف يزين هذا الصنف من الناس هذه الدنيا ويبهجونها ويعمرونها وهم عطل عنها ومحدودون منها. والمترفون فيها لا يحسنون عمل شيء وربما لم يكونوا أيضاً يحسنون الكلام. وإذا كان الناس عباد الله في أرضه على اختلاف أحوالهم ومراتبهم هم كالجسم الواحد باختلاف ما فيه من الأعضاء الجليلة والحقيرة فلم لا يجري العدل بينهم كما يجري بين الأعضاء. فإن الإنسان إذا أكل شيئاً أو لبس شيئاً فإنما يفعل ذلك يفعل ذلك لإصلاح الجسم كله. أم يزعم المثرون إذا وسعوا على هؤلاء الضناك الصعاليك. ونفّسوا عنهم الكرب الذي يكابدونه من جهد المعيشة ومن عدم قدرتهم على تربية أولادهم أنهم يحملونهم على إهمال شغلهم وعلى تركهم الأرض بوراً فتتعطل وتمحل فيهلكون جوعاً فما بال ذي الدولة إذا يولي المبالغ الجسيمة والجوائز الجزيلة لمن يقلده عملا ويرقيه مرتبة ولا يخاف أن يفسد عليه بكثرة ما يعطيه. لا بل أن الفقير إذا كفاه واليه أو سيده المؤونة وهو شيء بالنسبة إليه هيّن فإنه يؤدي ما يجب عليه من الخدمة والعمل عن طيب نفس. ويدعو له بزيادة الخيرات والبركات بدل ما إنه يبيت الليالي شابحا يديه بالدعاء عليه لتيقنه إن حقه ضائع عنده وأن هزاله وضواه ذاهب في تسمين غيره. وفي حمله على البطر والعتو واقتناء ما لا تلزم قنيته من الخيول المطهمة والمراكب النفيسة والأثاث المنضد. فيأكل الغني لقمته والحالة هذه مغموسة بدعاء الفقير عليه. أم يحسبون أن الله تعالى إنما خلق الفقراء لخدمتهم فقط. لعمري أن حاجة الغني إلى الفقير أشد حاجة الفقير إلى الغني. أم يأنفون من النظر من مقامهم الرفيع السامي إلى ذوي الضعة والخمول خشية أن يسري إليهم من بؤسهم ما يسوءهم. كمن ارتقى شرفاً باذخاً وتحتح هوّة عظيمة فهو يأبى من أن يتطأطأ وينظر إليها لئلا يلحقه من ذلك دوار أو غشيان فيهبط من شرفه. ليت شعري هل جرب الأغنياء حينا من الدهر أن يسعدوا الشقي بمالهم. وينعشوه برفدهم. ثم وجدوه مقابلا نعمتهم عليه بالكفران والبطالة وبإهمال ما فرض عليه من قبل الله والطبيعة. وإنما هو محض وهم دخل في رؤوسهم مع الرحيق فخرج هذا ولم يخرج ذاك. ألا فليمكنوه من أن يذوق لذة العيش ويرى الدنيا كما هي عليه شهراً واحداً في عمره في الأقل أو يوماً في العام حتى يموت راضياً قرير العين. وإذا كانوا يخشون منه الفساد لكسله وتعطله. فخوفهم من فساد نيته لفقره ومن كراهته إياهم أولى. لأن الشقاوة ادعى إلى الفساد من السعادة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015