ثم لما مضت مدة على الفارياقية في بلاد الفلاحين حيث لا أنس للغريب ولا حظ غير خضرة الأرض عيل صبرها وضاق صدرها وعرتها السآمة والقلق. فقالت لزوجها ذات يوم: يا للعجب من هذه الدنيا ومن أحوالها. واعجب ما فيها هذا الحيوان الناطق الماشي على ظهرها كف تمر عليه الليالي والأيام والأماني تغره. والآمال تشغله وتعلله. وكلما جرى وراءها ليدركها تقدمته وبعدت عنه كظله. وكل يوم يحسب إنه في يومه أعقل منه في أمسه. وإن غده يكون خيراً من يومه.
قد كنت احسب ونحن في الجزيرة أن الإنكليز احسن الناس حالاً. وانعم بالاً. فلما قدمنا بلادهم وعاشرناهم إذا فلاّحوهم أشقى خلق الله. انظر إلى أهل هذه القرى التي حولنا وأمعن النظر فيهم تجدهم لا فرق بينهم وبين الهمج. يذهب الفلاح منهم في الغداة إلى الكد والتعب ثم يأتي بيته مساء فلا يرى أحداً من خلق الله ولا يراه أحد. فيرقد في العشاء ثم يبكر لما كان فيه وهلم جرا. فهو كالآلة التي تدور مدارا محتتنا فلا في دورانها لها حظ وفوز ولا في وقفها راحة. فإذا جاء يوم الأحد وهو يوم الفرح واللهو في جميع الأقطار لم يكن له حظ سوى الذهاب إلى الكنيسة. فيمكث فيها ساعتين كالصنم يتثاءب ساعة ويرقد أخرى ثم يعود إلى بيته. فليس عندهم مثابة ولا موضع للسمر والطرب. وليست أيضاً عيشة المتمولين في الريف بأنعم من عيشة الفلاحين إذ لا يعرفون من المطاعم غير الشواء وهذا القلقاس. ولكن هيهت أين المتمولون في القرى فإنك لا ترى فيها مثريا إلا القسيس وخولي الأرض وهو الذي يضمن المزارع والحقول من مالكها. وهما أيضاً بمثابة الفلاحين.