ثم سافر من مرسيلية إلى باريس ففُتش أيضاً هو وصندوقه في ديوان مكسها. فكان مكاسي هذه المدينة كما يحسبون أن رفاقهم في تلك قد ناموا عن قيام الليل. فبال الشيطان في آذانهم. فعمشت عيونهم عن رؤية ما في الصندوق. أو أنهم يرتشون كسائر أصحاب الوظائف. فأقام في باريس ثلاثة أيام في داره سفارة الدولة العلمية وفيها حظي بتقبيل أيدي الوزيرين المعظمين والمشيرين المفخمين رشيد باشا وسامي باشا.
لم يمض على الفارياق في مدى عمره مدة هي أنحس وأشقى من المدة التي قضاها في تلك القرية. لأن قرى بلاد الإنكليز ليس فيها من محل لهو واجتماع وأنس وحظ البتة. وإنما اللهو والحظ في المدن الكبيرة. وفضلاً عن ذلك فليس في القرى شيء يباع للمأكول والمشرب سوى ما لا احتفال به. ومن كان عنده دجاجة أو طرفة بعث بها إلى إحدى المدن القريبة. فمن شاء أن ينقطع عن الدنيا أو يترهب فعليه بها.
أما النساء هناك ففيهن من تشفي من القمة بل تمني بالقرم. إلا أن الغريب محروم منهن. إذ كل ذات ظلف ملازمة لفحلها فليس من سائب مبهل إلا العجائز.
ثم بعد مضي شهرين عليه وهو على هذه الحالة المشؤومة أنتقل إلى مدينة كامبردج مصدر القسوسة وعلم الكلام. فإن جل قسيسي الإنكليز يمضون إليها أو إلى أكسفورد ليتعلموا فيها الإلهيات والمناظرة. وفي هاتين المدينتين أيضاً سائر طلاب العلم على اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم. ومن إحدى مدارس كامبردج نبغ نيوطون الفيلسوف المشهور. فاكتري الفارياق فيها مسكنين في دار كما هي العادة ومكث يترجم بقية الكتاب الذي مرّت الإشارة إليه سابقاً.
وكان في تلك الدار جارية دعجاء كاعب وكذا سائر الوصائف غالباً. فكان الفارياق يراها كل ليلة تطلع إلى غرفة أحد السكان ثم بعد هنيهة ليست بأطول من قولك عمت مساء يسمع لها نغمة إيغافية. وكانت صاحبة المنزل تراها نازلة من عند الرجل في الساعة العاشرة ونحوها من الليل ولا تكثرت بطلوعها ولا بنزولها. فإذا جاءت في الصباح لتصلح فراش الفارياق حملق فيها وحدق فلم يرَ علامة تدل على أنها كانت هي صاحبة النغمة. فيظن أن ذلك كان وهماً منه نشأ عن اللهج بالإيغاف. فإذا جاء الليل عادت النغمة وعاد اليقين. فإذا كان الصباح عادت الحملقة وعادت التصاون وعاد الشك والحيرة وهلم جرا. حتى كاد ذلك يشوش عقل الفارياق ويفسد عليه الترجمة التي طالما كان يخشى عليها الخلل والفساد من قضية ما نسائية. وهنا ينبغي أن أقرفص وأقول.